فالهبة أولاً
عقد لا بد فيه من إيجاب وقبول متطابقين ( [1] ) ، ولا تنعقد الهبة
بإرادة الواهب المنفردة كما سنرى .
وهذا هو الذي يميز الهبة عن الوصية ، إذ الوصية تنعقد ايرادة الموصى المنفردة ، ويجوز لهذا أن فيها ما دام حيا ، فلا تنتج الوصية أثرها إلا عند موته .أما رضاء الموصى له بالوصية بعد موت الموصى فليس قبولا لإيجاب من الموصى ، بل هو تثبيت لحق الموصى له في الموصى به حتى لا يكسب حقاً بغير رضائه على النحو الذي رأيناه في قبول المنتفع للاشتراط لمصلحته في الاشتراط لمصلحة الغير .
ويقطع في ذلك أن الموصى له يكسب الموصى
به لا من وقت " قبوله " للوصية بل من وقت موت الموصى ، ولو كانت
الوصية عقداً تتم ببقول الموصى له لكسب هذا ملكية الموصى به من وقت قبوله لا من
وقت موت الموصى . فالهبة إذن تختلف عنا لوصية في إنها عقد لا يجوز الرجوع فيه
إلا في أحوال معينة ، وفي أن أثرها لا يتراخى حتما إلى موت الواهب . ووصف
الهبة في التعريف الذي أورده التقنين المدني بأنها عقد يخرج الوصية قطعاً عن أن
تكون هبة ، وليس من الضروريان يضاف إلى التعريف أن تكون الهبة غير مضافة الموت
الواهب ( [2] ) .
وهذا هو الذي يميز الهبة عن الوصية ، إذ الوصية تنعقد ايرادة الموصى المنفردة ، ويجوز لهذا أن فيها ما دام حيا ، فلا تنتج الوصية أثرها إلا عند موته .أما رضاء الموصى له بالوصية بعد موت الموصى فليس قبولا لإيجاب من الموصى ، بل هو تثبيت لحق الموصى له في الموصى به حتى لا يكسب حقاً بغير رضائه على النحو الذي رأيناه في قبول المنتفع للاشتراط لمصلحته في الاشتراط لمصلحة الغير .
وما دمنا نقول إن الهبة عقد
فهي عقد ما بين الأحياء ، ولا حاجة إلى النص على ذلك صراحة كما قدمنا ،
فإن التقنين المدني المصري لا يعرف العقد إلا بين الأحياء . ومن ثم تخرج
الهبة لما بعد الموت ، وهي الهبة التي يعرفها القانون الروماني ولا يعرفها
القانون المصري ( [3] ) . فلا يجوز في
القانون المصري أن يعقد الواهب هبة باتة ويرجئ في الوقت ذاته نقل ملكية
الموهوب إلى ما بعد موته ( [4] ) ، ولا يستطيع أن يفعل
ذلك إلا عن طريق الوصية وبإرادته المنفردة التي يجوز له الرجوع فيها كما سبق القول .
وإلى هذا تشير المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي إذ تقول : " ويلاحظ أن
الهبة عقد يتم في حال الحياة ، أما الهبة لما بعد الموت ، وتختلف عن
الوصية في أنه لا يجوز الرجوع فيها إلا حيث يجوز الرجوع في الهبة ، فباطلة ،
ويكون الموهوب لورثة الواهب : م 504 / 2 من قانون الأحوال الشخصية " ( [5] ) .
(
[1] )
والهبة
يتحقق وجودها الشرعي بمجرد الإيجاب عند أبي حنيفةوصاحبيه ، وقبول الموهوب له
عندهم شرط لثبوت الملك له لأن أحداً لا يملك إدخال شيء في ملك غيره بدون رضاه .
أما عند زفر فلا يتحقق للهبة وجود شرعي إلا بإيجاب وقبول متطابقين . جاء في
البدائع ( جزء 6 ص 115 ) : " أما ركن الهبة فهو الإيجاب من الواهب ،
فأما القبول من الموهوب له فليس بركن استحساناً . والقياس أن يكون ركناً ،
وهو قول زفر ، وفي قول قال القبض أيضاً ركن " . أما القبض ،
فهو في الفقه الحنفي شرط لنقل الملك في الموهوب إلى الموهوب له . وقد أخذ
قانون الأحوال الشخصية برأي زفر ، فنصت المادة 500 على أن " تصح الهبة
بإيجاب من الواهب وقبول من الموهوب له ، والقبض يقوم مقام القبول " .
وعند
مالك تتم الهبة وتلزم بإيجاب الواهب . ويستطيع الموهوب له أن يجبر الواهب على
التسليم ، فينتقل إليه الملك بالقبض . ولو قبض بغير إذن الواهب ،
صح وانتقل الملك إليه .
وعند
الشافعية والحنابلة لا تصح الهبة إلا بالايجاب والاقبول .
(
[3] )
استئناف
مختلط 16 مايو سنة 1944 م
56 ص 147 – 18 مارس سنة 1948 م
59 ص 167 – وقد عرف القانون الروماني الهبة لما بعد الموت ( mortis causa donation ) ، بأنها هبة يتجرد بها الواهب عن مال له دون مقابل
لمصلحة الموهوب له عندما يخشى أن تكون منيته قد دنت ، كأن يكون موشكاً على
الاشتباك في حرب أو في مبارزة أو كأن يكون مصاباً بمرض خطير ، ولا ينتقل ملك
الموهوب إلى الموهوب له إلا إذا مات الواهب قبله . فإذا نجا الواهب من الموت
انفسخت الهبة من تلقاء نفسها .
ويبيح
القانون المدني الفرنسي ضروباً من الهبة تقرب من الهبة لما بعد الموت ، أهمها
هي هبة الأموال المستقبلة التي يتضمنها الاتفاق المالي في الزواج ( contrat de marriage ) ، والهبة ما بين الزوجين ( أنظر في هذه المسألة في
القانون الروماني وفي القانون المدني الفرنسي اوبرى وروو إسمان 10 فقرة 645 ) .
ويعرف
الفقه الإسلامي ، ومعه القانون المدني المصري ، الهبة في مرض الموت .
وتختلف عن الهبة لما بعد الموت في أن هذه لا تنقذ إلا بموت الواهب كما في الوصية ،
أما الهبة في مرض الموت فتنفذ حال حياة الواهب ولو أنه يكون في مضر الموت وقت أن
يهب ، فمن الناحية العملية إذن تتقارب الهبتان . والهبة في مرض الموت
لها على كل حال حكم الوصية ، فلا تنفذ إلا في ثلث التركة ، لوارث أو
لغير وارث .
ويعرف
الفقه الإسلامي كذلك العمري والرقبي . أما العري فهي أن يقول شخص لآخر أعمرتك
كذا مدة حياتك ، حتى إذا مت عادت إلي إن كنت حياً أو إلى ورثتي إن مت قبلك ،
وعند الحنفية والشافعية والحنابلة أن الهبة تصح ويلغو الشرط ، فتكون العين
ملكاً للمعمر له ثم لورثته من بعده ، وعند المالكية يصح العقد والشرط معاً ،
فتكون العمري تمليك منفعة العين للمعمر له مدة حياته ، فإذا مات رجعت العين
إلى المعمر إن كان حياً أو إلى ورثته . أما الرقبي فهي أن يقول شخص لآخر داري
لك رقبى ، أي ترتقب موتى ، حتى إذا مت كانت الدار ملكاً لك . فهذا
تملك بات ( بخلاف الوصية ) أضيف إلى الزمان المستقبل ، فلا تجوز عند
الجمهور ، وتخرج عند مالك على إنها وصية فتجوز . وهناك صورة أخرى للرقبى
: يكون لزيد دار ولبكر دار ، فيشفقان على أن الدارين يكونان ملك من يعيش بعد
الآخر ، ويغلب أن يكون ذلك بين الزوجين . وهذه الصورة باطلة عند الجميع –
حتى عند مالك – لما فيها من الغرر . أنظر في العمري والرقبى البدائع 6 ص 116 –
ص 117 – الخرشي 7 ص 111 – ص 112 – المهذب 1 ص 448 – المفتي 5 ص 624 – ص 628 –
وانظر المادة 504 من قانون الأحوال الشخصية لقدري باشا .
وقد
قضت محكمة النقض بأنه إذا حررت زوجة لزوجها عقد بيع بجميع أملاكها على أن يتملكها
إذا ماتت قبله ، وحرر هذا الزوج لزوجته مثل هذا العقد لتتملك هي ماله في حالة
وفاته قبلها ، فإن التكييف الصحيح الواضح لتصرفها هذا أنه تبادل منفعة معلق
على الخطر والضرر ، وانه اتفاق مقصود به حرمان ورثة كل منهما من حقوقه
الشرعية في الميراث ، فهو اتفاق باطل . أما التبرع المحض الذي هو قوام
الوصية وعمادها ، فلا وجود له فهي . ويشبه هذا التصرف أن يكون من قبيل
ولاء الموالاة ولكن فيغير موطنه المشروع هو فيه ما دام لكل من المتعاقدين ورثة
آخرون .
بل
هو من قبيل الرقبى المحرمة شرعاً ( نقض مدني 14 يونيه سنة 1934 مجموعة عمر 1 رقم
199 ص 449 ) .
وقضت
محكمة الاستئناف المختلطة في حكم بأن الرقبى باطلة ( 25 مارس سنة 1931 م 43 ص 312 ) ،
وفي حكم آخر بأنها وصية مستترة فيكون لها حكم الوصية ، وهذا هو مذهب مالكح (
5 مارس سنة 1935 م
47 ص 183 ) .
(
[4] )
استئناف
مختلط 14 يناير سنة 1930 م
42 ص 186 – ولكنه يستطيع أن يهب مالا في الحال ويؤجل تسليمه إلى ما بعد وته .
فبثبت للموهوب له في الموهوب حق الملك في الحال ( أوبرى ورو وغسمان 10 فقرة 647 ص
411 – وبودري وكولان 10 فقرة 23 . أما إذا وهب شخص آخر مالا على إلا يثبت
للموهوب له ملك في الموهوب إلا بعد موت الواهب – وهذه هي الهبة لما بعد الموت –
فإن هذه الهبة تكون باطلة كما قدمنا . ولكني صح أن تتحول ، وفقاً لقواعد
تحول التصرفات الباطلة ، إلى وصية صحيحة ، فيجوز للمتصرف الرجوع فيها
حال حياته ، ولا تنفذ إلا في ثلث التركة ( قارب استئناف مختلط 5 مارس سنة 1935 م 47 ص 183 – وقارن
الأستاذ أكثم الخولي فقرة 54 ) .
الهبة عقد ما بين الأحياء
4/
5
بواسطة
Mostafa Attiya
2 التعليقات
ماذا يجول بخاطرك ؟ لاتتردد !! عبّر عن نفسك .بعض الكلمات ستتدفق وبعضها سيتعثر لكنها تسعدنا مهما كانت.