ب - الجزاء الذي يترتب على الاستغلال
209 – دعويان : إذا توافرت شروط الاستغلال التي أسلفنا ذكرها " جاز
للقاضي ، بناء على طلب المتعاقد المغبون ، أن يبطل العقد أو أن ينقص
التزامات هذا المتعاقد " . ويتبين من ذلك أن القانون يرتب على الاستغلال
إحدى دعويين : دعوى إبطال ، ودعوى إنقاص .
وسواء طلب المتعاقد المغبون الإبطال أو طلب الإنقاص ، فإنه يجب أن
يرفع دعواه في " خلال سنة من تاريخ العقد وإلا كانت غير مقبولة " ( م
129 فقرة ثانية ) . والسنة هنا ميعاد لرفع الدعوى لا مدة للتقادم ، فإذا
انقضت السنة دون أن يرفع المتعاقد المغبون دعواه ، ورفعها بعد ذلك ،
كانت الدعوى غير مقبولة كما يقضي بذلك صريح النص . ويقال عادة في هذا الصدد
أن السنة ميعاد إسقاط ( déchéance ) لا ميعاد
تقادم ( prescription ) . والفرق
بين الميعادين أن ميعاد الإسقاط لا ينقطع ولا يقف ، بخلاف ميعاد التقادم فيرد
عليه الانقطاع والوقف . وتبدأ السنة من وقت تمام العقد ، وتحسب بالتقويم
الميلادي ( م 3 من القانون الحالي) .
والحكمة في أن القانون جعل ميعاد رفع الدعوى في الاستغلال مدة قصيرة ، وجعله ميعاد إسقاط لا ينقطع ولا يقف ، هي الرغبة في حسم النزاع بشأن العقود التي يداخلها الاستغلال ، فلا يبقى مصري العقد معلقاً مدة طويلة على دعوى مجال الادعاء فيها واسع فسيح . وفي هذا حماية للتعاقد واستقرار للتعامل .
أما دعوى الإبطال في الغلط والتدليس والإكراه فسنرى إنها لا تسقط إلا بثلاث سنوات أو بخمس عشرة سنة على حساب الأحوال ( م 140 ) ، وهذه المدة هي فوق ذلك مدة تقادم لا ميعاد إسقاط ، فيجوز أن تطول إذا قام بها سبب من أسباب الانقطاع أو الوقف . والعلة في ذلك أن الطعن في العقد بالغلط أو بالتدليس أو بالإكراه أمر من الميسور نسبياً تبين وجه الحق فيه ولو طال الزمن إلى ما بعد السنة ، فإن كلا من الغلط والتدليس والإكراه شيء يستطاع التثبت من وجوده بأيسر مما يستطاع التثبت من وجود الاستغلال ( [1] ) .
210 – دعوى الإبطال : وإذا اختار المتعاقد المغبون دعوى الإبطال جاز للقاضي
أن يجيبه إلى طلبه فيبطل العقد إذا رأى أن الاستغلال عاب رضاء المتعاقد المغبون
إلى حد أن افسد هذا الرضاء . وأن المتعاقد المغبون لم يكن ليبرم العقد أصلاً
لولا هذا الاستغلال . أما إذا رأى القاضي أن الاستغلال لم يفسد الرضاء إلى
هذا الحد ، وأن المتعاقد المغبون كان دون استغلال يبرم العقد لو أن التزاماته
لم تكن باهظة ، رفض القاضي إبطال العقد ، معاوضة كان أو تبرعاً ،
واقتصر على إنقاص الالتزامات الباهظة على الوجه الذي سيأتي بيانه . والخيار
ما بين إبطال العقد وانقاص الالتزامات يسترشد فيه القاضي بملابسات القضية وظروفها ،
فالمسالة إذن مسألة واقع لا معقب عليها من محكمة النقض .
ودعوى الإبطال للاستغلال يجري عليها أحكام دعاوى الإبطال الأخرى ،
وسيأتي ذكر هذه الأحكام عند الكلام في بطلان العقد . ولكنها تتميز عن سائر
هذه الدعاوى في أمرين .
( الأمر الأول ) المدة التي ترفع
فيها الدعوى ، وقد مر ذكر ذلك .
( والأمر الثاني ) أن الطرف
المستغل يجوز له أن يتوقى الحكم بالابطال عقود المعاوضات إذا هو عرض على الطرف
المغبون ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن . وقد نصت الفقرة الثالثة من
المادة 129 على هذا الحكم فقالت : " ويجوز في عقود المعاوضة أن يتوقى الطرف
الآخر دعوى الإبطال إذا عرض ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن " . فإذا
كان العقد معاوضة كالبيع ، وطلب البائع المغبون إبطاله للاستغلال ، جاز
للمشتري أن يعرض زيادة في الثمن ترفع الغبن عن البائع . فإذا رأى القاضي أن
الزيادة التي عرضها المشتري تكفي لرفع الغبن ، اكتفى بها وامتنع عن إبطال
العقد . ومقدار الزيادة الذي يكفي لرفع الغبن يرجع إلى تقدير القاضي .
ولا يشترط أن تكون الزيادة بحيث تجعل الثمن معادلا لقيمة الشيء . بل يكفي أن
تكون بحيث تجعل الغبن الذي يتحمله البائع لا يصل إلى حد الغبن الفاحش . وينظر
القاضي في تقدير ذلك إلى ملابسات القضية وظروفها ، ولا تعقب عليه محكمة النقض
ما دام التسبيب وافياً . وغنى عن البيان أن ما قدمناه من دفع زيادة ترفع
الغبن لتوقى دعوى الإبطال لا ينطبق على عقود التبرع ، فإن من تلقى التبرع لم
يدفع أي مقابل تصح زيادته لرفع الغبن .
211 – دعوى الإنقاص : وإذا اختار المتعاقد المغبون إنقاص التزاماته الباهظة
ورفع من بادئ الأمر دعوى الإنقاص ، أو رفع دعوى الإبطال ولكن القاضي رأى
الاقتصار على إنقاص التزاماته ، قضى بانقاص هذه الالتزامات إلى الحد الذي لا
يجعلها باهظة ( [2]
) . وهذا أيضاً موكول لتقدير القاضي ينظر فيه وفقاً لملابسات القضية وظروفها ،
كما هو الشأن في الزيادة التي يعرضها الطرف المستغل لرفع الغبن فيما مر بنا .
والمسالة هنا أيضاً مسألة واقع لا رقابة لمحكمة النقض عليها . ففي البيع
المشوب بالاستغلال إذا رفع البائع المغبون دعوى الإنقاص ، أو رفع دعوى الإبطال
ولكن رؤى الاقتصار على الإنقاص ، جاز للقاضي أن ينقص من المبيع القدر الذي
يراه كافياً لرفع الغبن الفاحش عن البائع ولا يشترط هنا أيضاً أن يكون الباقي من
المبيع معادلا للثمن . بل يكفي إلا يكون هناك غبن فاحش إذا قوبل هذا الباقي
بالثمن .
ولا يجوز وقت النظر في إنقاص التزمات البائع الباهظة أن يعدل القاصي عن
إنقاص التزامات البائع إلى الزيادة في التزمات المشتري ، بان يزيد في مقدار
الثمن بدلا من أن ينقص في قدر المبيع : فإن نص القانون لا يجير ذلك ، ولانه
إذا كان إنقاص مقدار المبيع لا يؤذى البائع بل يرفع عنه الغبن ، فإن الزيادة
في الثمن قد تؤذي المشتري إلى حد أن يؤثر العدول عن الصفقة . وإنما تجوز
الزيادة في الثمن إذا رغب المشتري نفسه في ذلك بان ترفع عليه دعوى الإبطال
فيتوقاها بعرض زيادة في الثمن يراها القاضي كافية لرفع الغبن كما مر .
ويجوز الإنقاص في عقود التبرع التي داخلها الاستغلال كما يجوز الإبطال ،
وينقص القاضي التبرع إلى الحد الذي ينتفى معه اثر الاستغلال .
212 – دفع ما وجه من اعتراض على نظرية الاستغلال : خشى كثيرون من هذا النص
العام الذي ورد في القانون الجديد عن الاستغلال ، ورأوا فيه ما يعرض التعامل
إلى التقلقل وعدم الاستقرار ، وحسبوا أنه سيكون مصدراً لكثير من المنازعات
والدعاوى . ولا نرى ما يبرر هذا التخوف ، فإن القضاء المصري قد واجه
فعلا اقضية الاستغلال في الأمثلة التي قدمناها ، وعالجها بالقدر الذي استطاع
عن طريق تطبيق القواعد العامة . وقد رأينا أن القواعد العامة لا تكفي هنا ،
وأن نصاً عاماً في الاستغلال ، لاسيما إذا شمل هذا النص حالات الاستهواء
أيضاً ، تفرضه الضرورة وتوجبه مقتضيات التعامل . فيواجه القاضي ما يعرض
له فعلا من حالات الاستغلال بنص صالح تنضبط به المعاملات ، وتنقطع معه أسباب
الخلاف والتردد .
والغريب أن خصوم نظرية الاستغلال يناقض بعضهم بعضاً . ففريق منهم يرى
أن هذا النص العام في الاستغلال سيكون مصدراً لكثرة المنازعات والدعاوى ( [3]
) . وفريق آخر يقول على النقيض من ذلك أن النص نادر التطبيق ، وأن
اقضية الاستغلال التي طرحت أمام المحاكم في البلاد التي اشتملت قوانينها على هذا
النص كانت من القلة بحيث أصبح النص عديم الجدوى ( [4]
) . وسنرى ما يصير إليه الأمر في مصر بعد أن تطبق المحاكم المصرية النص الذي
أشتمل عليه القانون الحالي ( [5]
) .
( [1] ) ولم يكن المشروع التمهيدي يفرق في هذا
الصدد ما بين دعوى الإبطال في الغلط والتدليس والإكراه ودعوى الإبطال أو الإنقاص
في الاستغلال ، فكل هذه الدعاوى كانت تتقادم بثلاث سنوات ( مجموعة الأعمال
التحضيرية ج 2 ص 247 ) . ولكن لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ادخلت التعديل
الذي يقضي بهذا التفريق كما مر بنا ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 200 – ص 201
) .
( [2] ) وإذا صح للقاضي أن يحكم بالإنقاص ولو
طلب المتعاقد المغبون الإبطال ، فإن لا يصح له أن يحكم بالإبطال إذا طلب
المتعاقد المغبون الإنقاص ، لأن هذا قد قدر مصلحته واقتصر على الإنقاص ،
فلا يصح للقاضي أن يحكم بالإبطال وإلا اعتبر أنه قد قضى للخصم بأكثر مما طلب .
ويبقى القاضي مقيداً بطلب الإنقاص إذا تقدم به المتعاقد المغبون حتى لو كان الطرف
الآخر اثر على إنقاص العقد إبطاله ، ذلك أنه لا يستطيع أن يطلب إبطال عقد
استغل هو فيه الطرف المغبون .
( [5] ) وغنى عن البيان أن العقود التي تكون
قد أبرمت قبل نفاذ القانون المدني الجديد يسري عليها القانون القديم ، فلا
تطبق بالنسبة إليها قواعد الاستغلال التي مر ذكرها ، بل يقتصر فيها على تطبيق
القواعد العامة على الوجه الذي كان معمولا به في القانون القديم . أما العقود
التي تكون قد أبرمت منذ نفاذ القانون الجديد ( أي منذ 15 أكتوبر سنة 1949 ) ، فهذه
هي التي تسري عليها المادة 129 من هذا القانون .
الجزاء الذي يترتب على الاستغلال
4/
5
بواسطة
Mostafa Attiya
ماذا يجول بخاطرك ؟ لاتتردد !! عبّر عن نفسك .بعض الكلمات ستتدفق وبعضها سيتعثر لكنها تسعدنا مهما كانت.