أ -تحديد معنى السبب في النظرية التقليدية
263 – السبب الإنشائي والسبب
الدافع والسبب القصدي:
تميز النظرية التقليدية بين السبب
الإنشائي ( cause
efficiente ) والسبب الدافع ( cause impulsive ) والسبب
القصدي ( cause finale ) ( [1] ) .
فالسبب الإنشائي هو مصدر الالتزام . وقد عرفنا أن مصادر الالتزام هي
العقد والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب والقانون . والسبب بهذا المعنى لا
يعنينا هنا ، ويجب أن نستبعده .
والسبب الدافع هو الباعث الذي دفع الملتزم إلى أن يرتب في ذمته الالتزام .
فمن يشتري منزلا قد يكون الدافع له على الشراء والالتزام بدفع الثمن هو أن يستغل
المنزل ، أو أن يخصصه لسكناه ، أو أن يجعل منه محلا لعمله ، أو أن
يديره للعهارة ، أو أن يجعل منه نادياً للمقامرة ، الخ . ونرى من
ذلك أن الباعث يجمع الخصائص الثلاث الآتية :
( 1 ) هو شيء خارجي عن العقد ( extrinsèque ) ، فلا
يذكر في الاتفاق ضرورة ، ولا يستخلص حتما من الالتزام . ( 2 ) هو شيء
ذاتي للملتزم ( subjectif ) ، إذ يرجع
إلى نواياه وما يتأثر به من دوافع . ( 3 ) هو شيء متغير ( variable ) ، لا في كل نوع من العقود فحسب ، بل في كل عقد على حدة ،
فالباعث للمشتري في عقد غير الباعث للمشتري في عقد آخر . ولما كان الباعث لا
يمكن ضبطه على وجه التحديد ، فإن النظرية التقليدية تذهب إلى أنه لا تأثير له
في وجود العقد ولا في قيام الالتزام . فمهما كان هذا الباعث شريفاً أو غير
شريف ، متفقاً مع النظام العام أو مخالفاً له ، فإن العقد صحيح
والالتزام قائم .
والسبب القصدي – وهو السبب الذي تقف عنده النظرية التقليدية واذ اطلقت كلمة
السبب عنته بهذه الكلمة – يعرف عادة بأنه هو الغاية المباشرة ( fin directe ) أو الغرض
المباشر ( but immédiate ) الذي يقصد
الملتزم الوصول إليه من وراء التزامه . فيختلف السبب عن الباعث في أن السبب
هو أول نتيجة يصل إليها الملتزم ( causa proxima ) ، أما الباعث فغاية غير
مباشرة ( causa remota ) تتحقق بعد أن يتحقق السبب ، و لا يصل إليها الملتزم مباشرة من وراء
الالتزام .
264 – السبب في الطوائف المختلفة
للعقود:
وتستعرض النظرية التقليدية الطوائف المختلفة للعقود لتحدد السبب – ويفهم
دائماً بمعنى السبب القصدي – في كل طائفة منها ، على النحو الذي جرى عليه
دوما وبوتييه .
ففي العقود الملزمة للجانبين سبب التزام كل من المتعاقدين هو التزام الآخر .
مثل ذلك عقد البيع ، يلتزم البائع فيه بنقل ملكية المبيع ، وسبب هذا
الالتزام – أي الغرض المباشر الذي قصد البائع أن يحققه من وراء التزامه بنقل ملكية
المبيع – هو التزام المشتري بدفع الثمن . ويلتزم المشتري بدفع الثمن ،
وسبب هذا الالتزام – أي الغرض المباشر الذي قصد المشتري أن يحققه من وراء التزامه
بدفع الثمن – هو التزام البائع بنقل ملكية المبيع . وقل مثل ذلك في العقود
الأخرى الملزمة للجانبين ، كالمقايضة والإيجار وعقد المقاولة وعقد العمل .
وفي العقود الملزمة لجانب واحد ، إذا كان العقد عينياً ، قرضاً
كان أو عارية أو وديعة أو رهن حيازة ( [2] ) ، يكون سبب
الالتزام المتعاقد الملتزم هو تسلمه الشيء محل التعاقد . فالمقترض يلتزم برد
القرض لأنه تسلمه ، وهذا هو الغرض المباشر الذي قصد إلى تحقيقه من وراء
التزامه .
وإذا كان العقد الملزم لجانب واحد عقداً رضائياً ، كالوعد بالبيع ،
فالظاهر أن سبب الالتزام هو إتمام العقد النهائي ، وهو الغرض المباشر الذي
قصد إلى تحقيقه ، وهو بعد سبب محتمل قد يتحقق وقد لا يتحقق ( [3] ) .
وفي عقود التبرع السبب في التزام المتبرع هو نية التبرع ذاتها .
فالمتبرع يقصد من وراء التزامه غرضاً مباشراً هو إسداء يمد للموهوب له ، وهذا
هو السبب في تبرعه .
265 – خصائص السبب:
ويتبين مما تقدم أن خصائص السبب في النظرية التقليدية هي عكس خصائص الباعث .
فالسبب شيء داخلي في العقد ( intrinsèque ) يستخلص حتما من نوع العقد
ومن طبيعة الالتزام ذاته . وهو شيء موضوعي ( objectif ) لا تؤثر فيه نوايا الملتزم .
وهو غير متغير ( invariable ) ، فيبقى
واحداً في نوع واحد من العقود ، ولا يتغير بتغير البواعث والدوافع .
وهذه الخصائص الثلاث هي عين الخصائص التي رأيناها لصيقة بالسبب في الفكرة
الرومانية القديمة .
266 – قيام السبب من وقت تكوين العقد إلى حين تنفيذه : وتحرص النظرية
التقليدية على أن تقرر أن قيام السبب واجب من وقت تكوين العقد إلى حين تنفيذه .
فإذا قام السبب عند تكوين العقد ، ثم انقطع قبل التنفيذ ، سقط الالتزام .
وتظهر أهمية هذا الحكم في العقود الملزمة للجانبين . فإن هذه العقود تتميز
بأمور ثلاثة : ( 1 ) إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه جاز للمتعاقد الآخر
أن يمتنع عن تنفيذ ما ترتب في ذمته من التزام ، وهذا هو الدفع بعدم التنفيذ .
( 2 ) إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه جاز للمتعاقدين الآخر أن يطلب فسخ
العقد ، وهذه هي نظرية الفسخ . ( 3 ) إذا استحال على أحد المتعاقدين
تنفيذ التزامه لقوة قاهرة تحمل هو تبعة هذه الاستحالة وسقط التزام المتعاقد الآخر ،
وهذه هي نظرية تحمل التبعة . وسنعرض لهذه النظريات بالتفصيل في مواضعها .
ويكفي أن نشير هنا إلى أن أصحاب النظرية التقليدية يبنون هذه النظريات الثلاث على
فكرة السبب ووجوب بقائه قائماً إلى أن يتم تنفيذ العقد . فإذا لم يقم أحد
المتعاقدين بتنفيذ التزامه ، أو استحال عليه هذا التنفيذ لقوة قاهرة ،
فإن التزام المتعاقد الآخر ينقطع سببه ، ومن ثم يستطيع هذا المتعاقد أن يمتنع
عن تنفيذ التزامه ، أو أن يطلب فسخ العقد ، أو أن يجعل المتعاقد الذي
استحال تنفيذ التزامه يحمل تبعة هذه الاستحالة بعد سقوط الالتزام الذي انقطع سببه (
[4] ) .
( [1] ) وقد رأينا أصل هذا التمييز فيما نقله
المحشون والبارتوليون عن الفلسفة اليونانية من التمييز بين السبب ( causa proxima
, finalis
) والباعث ( causa remote, impulsive ) ( أنظر آنفاً فقرة 256 ) ، وفي التمييز الذي قال
به بوتييه بين السبب بمعنى مصدر الالتزام والسبب بمعنى الغرض الذي يقصد إليه
الملتزم ( أنظر آنفاً فقرة 260 في الهامش ) .
( [4] ) ويلاحظ أن القانون الروماني كان يأبى
أن يدفع فكرة السبب في عقد البيع إلى حد أن يتطلب بقاء السبب بعد تكوين العقد ،
بل كان يقف بفكرة السبب عند تكوين العقد ، دون أن يجاوز مرحلة التكوين إلى
مرحلة التنفيذ . فلم يكن يسلم بأية نظرية من هذه النظريات الثلاث : الدفع
بعدم التنفيذ والفسخ وتحمل المدين تبعة استحالة التزامه ( أنظر آنفاً فقرة 352 ) .
فالنظرية التقليدية في السبب متقدمة في هذه الناحية على القانون الروماني .
تحديد معنى السبب في النظرية التقليدية
4/
5
بواسطة
Mostafa Attiya
ماذا يجول بخاطرك ؟ لاتتردد !! عبّر عن نفسك .بعض الكلمات ستتدفق وبعضها سيتعثر لكنها تسعدنا مهما كانت.