2 -خصوم السبب وأنصاره.
ا – خصوم السبب
271 – الهجوم على النظرية التقليدية:

ونقف عند نقد بلانيول لنظرية السبب التقليدية ، ففيه خلاصة واضحة
للحملات التي قام بها خصوم السبب ، وكان هو المعول الفعال في هدمها .
272 – نقد بلانيول لنظرية السبب التقليدية:
يقول بلانيول إن نظرية السبب
التقليدية نظرية غير صحيحة ، ثم هي غير ذات فائدة .
أما أنها غير صحيحة ، فذلك يظهر إذا استعرضنا السبب في فروضه الثلاثة
: العقد الملزم للجانبين والعقد العيني وعقد التبرع . ففي العقد الملزم
للجانبين لا يجوز القول ، كما تزعم النظرية التقليدية ، إن سبب أحد
الالتزامين المتقابلين هو الالتزام الآخر ، فإن هذا استحالة منطقية ،
ذلك أن الالتزامين يولدان في وقت واحد من مصدر واحد هو العقد ، فلا يمكن أن
يكون أحدهما سبباً للآخر . لأن السبب يتقدم المسبب ، وهما قد نشأ معاً
كما رأينا . وفي العقد العيني يقولون إن سبب الالتزام هو تسليم العين ،
ولكن التسليم ليس إلا المصدر الذي كون العقد فأنشأ الالتزام ، فيختلط هنا
السبب بالمصدر ويصبحان شيئاً واحداً . وفي عقد التبرع يقولون إن سبب الالتزام
هو نية التبرع ، وهذا قول خال من المعنى ، وإلا فأية قيمة لنية التبرع
في ذاتها إذا لم تقرن بالعوامل التي دفعت إليها !
وأما أن النظرية غير ذات فائدة ، فلأننا نستطيع الاستغناء عنها بشيء
آخر . ففي العقود الملزمة للجانبين يكفي أن نقول إن الالتزامين المتقابلين
مرتبطان أحدهما بالاخر بحيث يتوقف مصير كل منهما على مصير الثاني ، وتغني
فكرة الارتباط في هذه العقود عن فكرة السبب . وفي العقود العينية وعقود
التبرع انعدام السبب بالمعنى المفهوم من النظرية التقليدية هو انعدام التسليم في
العقد العيني وانعدام نية التبرع في الهبة ، وهذا معناه انعدام العقد ذاته ،
فلسنا إذن في حاجة إلى تعليل عدم قيام الالتزام بانعدام السبب مادام العقد ذاته
غير موجود .
ب – أنصار السبب
273 – الدفاع عن فكرة السبب:
أما أنصار السبب فكثيرون .
منهم من يدافع عن النظرية التقليدية بعد تحويرها ، وعلى رأس هؤلاء كابيتان في
كتابه المعروف " السبب في الالتزامات " ( [9] ) . ومنهم من يدافع
عن فكرة السبب في ذاتها ، ولكنه يهجر في الدفاع عنها النظرية التقليدية إلى
النظرية الحديثة التي وضع القضاء أسسها على ما سنرى .
ونبسط هنا دفاع كابيتان عن النظرية التقليدية، ثم نشير في ايجاز إلى بعض
الفقهاء الذين هجروا النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة .
274 – دفاع كابيتان عن نظرية السبب التقليدية:
يمكن القول إن كابيتان هو عميد أنصار النظرية التقليدية للسبب . ولكنه
هو في صدد الدفاع عنها قد حورها تحويراً جوهرياً في بعض نواحيها .
فعند كابيتان أن السبب في العقد الملزم للجانبين ليس هو الالتزام المقابل
ذاته ، بل هو تنفيذ هذا الالتزام ( [10] ) . ويقول ،
رداً على ما أخذه بلانيول على النظرية التقليدية من أن الالتزام الواحد لا يمكن أن
يكون سبباً ومسبباً ، إن تنفيذ الالتزام هو السبب فلا يجوز الاعتراض بعد ذلك
بأن الالتزام هو السبب والمسبب . ثم يضيف إلى ذلك أنه حتى لو فرض طبقاً
للنظرية التقليدية أن سبب الالتزام هو الالتزام المقابل ذاته ، فلا يصح أن
يقال مع ذلك إن الشيء الواحد يعتبر سبباً ومسبباً ، إلا إذا فهم السبب بمعنى "
السبب الإنشائي " ، فعند ذلك يستحيل منطقياً أن يكون الشيء منشئاً لشيء
آخر وناشئاً عنه في أن واحد . ولكن السبب هنا معناه " السبب القصدي "
أي الغرض المباشر الذي قصد إليه الملتزم من وراء التزامه ، ويسهل مع هذا
المعنى أن نفهم أن الغرض الذي قصد إليه أحد المتعاقدين من وراء التزامه هو التزام
المتعاقد الآخر بالذات ، فكل من المتعاقدين قد التزم حتى يلتزم الآخر ،
ولا يكون في هذا خروج على المنطق .
أما الالتزام الذي ينشأ من عقد عيني فسببه هو تسليم الشيء كما تقرر النظرية
التقليدية . وهذا صحيح في نظر كابيتان في عقود عينية ثلاثة هي القرض والعارية
ورهن الحيازة . فإن هذه العقود إذا كانت عينية من حيث الصياغة ، فهي من
حيث طبيعتها عقود رضائية ملزمة للجانبين . فالمقرض والمقترض مثلا يتفقان على
القرض ، ويتم العقد بالاتفاق ، فيلتزم المقرض بتسليم القرض كما يلتزم
المقترض برد مثله . ومن هنا نرى أن التسليم ، إذا رجعنا إلى طبيعة العقد ،
ليس هو حتما السبب المنشيء للالتزام ، بل هو الغرض الذي يسعى إليه المقترض من
وراء التزامه برد الشيء . فلا يختلط في هذه العقود الثلاثة " السبب
الإنشائي " و " السبب القصدي " كما يزعم خصوم نظرية السبب زولا
يبقى من العقود العينية إلا الوديعة . وهنا يسلم كابيتان أن الوديعة بطبيعتها
عقد عيني ملزم لجانب واحد إذا كانت بغير اجر ، ويرى أن سبب التزام المودع
عنده ليس هو تسليم الشيء ، إذ يختلط بذلك السبب الإنشائي بالسبب القصدي ،
بل هو رغبة المودع عنده ، وقد قبل أن يحفظ الشيء دون مقابل ، في أن يسدي
جميلا للمودع . أما إذا كانت الوديعة باجر فقد أصبحت عقداً ملزماً للجانبين ،
وصار سبب كل التزام هو تنفيذ الالتزام الآخر ( [11] ) .
أما في عقود التبرع ، فسبب الالتزام هو نية التبرع ذاتها ( animus donandi ) كما تقرر
النظرية التقليدية . ولا تختلط هذه النية بالرضاء كما يقول خصوم السبب .
فإن إرادة الواهب يمكن تحليلها على عنصرين : العنصر الأول هو إرادته أن يلتزم ،
وهذا هو الرضاء . والعنصر الثاني هو إرادته أن يكون هذا الالتزام دون مقابل
على سبيل التبرع ، وهذا هو السبب يتميز عن الرضاء كما نرى . والدليل على
ذلك أن العنصر الأول ، وهو الرضاء بالالتزام ، قد يثبت وجوده دون أن
يثبت وجود السبب وهو نية التبرع ، كما إذا كتب شخص سنداً بدين في ذمته لآخر ،
ثم استطاع أن يثبت أن هذا الدين لا وجود له ، فإنه يبقى بعد ذلك أن يثبت
الدائن نية التبرع في جانب المدين حتى يستوفى منه قيمة السند . فهذا مثل نرى
فيه رضاء المدين بالالتزام ثابتاً دون أن تكون نية التبرع عنده ثابتة . وعلى
أن كابيتان لا يقف عند نية التبرع بل يجاوزها إلى الباعث الدافع فيجعله هو السبب
في حالتين :
( 1 ) التبرع إذا اقترن بشرط يتبين أنه هو الذي دفع المتبرع إلى تبرعه ،
كما إذا وهب شخص مالا لجمعية خيرية واشترط على الجمعية أن تنشيء بهذا المال مستشفى
أو ملجأ ، فإن سبب الهبة في هذه الحالة لا يكون نية التبرع بل هو القيام
بالشرط الذي اقترن به التبرع . ( 2 ) الوصية حيث لا توجد إلا إرادة واحدة هي
إرادة الموصى ، فلا يجوز الوقوف فيها عند نية التبرع ، بل إن الباعث
الذي دفع الموصى إلى تبرعه هو الذي يجب اعتباره سبباً للوصية ، وفي هاتين
الحالتين يسلم كابيتان باختلاط الباعث بالسبب .
ومن ذلك نرى أن كابيتان أدخل تحويراً في النظرية التقليدية ، حيث يجعل
الباعث يختلط بالسبب في الحالتين المتقدمتين ، وحيث يحدد السبب في العقد
الملزم للجانبين بأنه هو تنفيذ الالتزام لا وجوده ، وحيث يحدد السبب في عقد
الوديعة غير المأجورة بأنه نية التبرع عند حافظ الوديعة . ولكنه مع ذلك يحتفظ
بجوهر النظرية التقليدية ، فيستبقى التمييز بين السبب والباعث ولا يخلط
بينهما إلا في فروض نادرة ( [12] ) ، ويجعل المعيار
في تحديد السبب موضوعياً لا ذاتياً ، فيكون السبب عنده شيئاً داخلا في العقد
لا منفصلا عنه ، وهو واحد لا يتغير في أي نوع من العقود .
275 – أنصار السبب الذين هجروا النظرية التقليدية إلى
النظرية الحديثة:
وإلى جانب كابيتان قام فقهاء
يدافعون عن فكرة السبب ، وينادون بوجوب الاحتفاظ بها ، ويخالفون بذلك
بلانيول وغيره من خصوم السبب الذين يقولون بوجوب حذف هذه الفكرة من القانون .
ولكن هؤلاء الفقهاء الذين ينتصرون للسبب ، ومن أبرزهم جوسران وريبير
وديموج وبنكاز ، لا يدافعون عن السبب كما هو مبسوط في النظرية التقليدية ،
بل يتوسعون فيه ويخلطونه بالباعث ، ويهجرون النظرية التقليدية إلى النظرية
الحديثة التي وضع أساسها القضاء الفرنسي ، والتي نتولى الآن بسطها .
<<< السابق <<
<<< السابق <<
' A propos de
la revision du Code Civil – De la Cause dans les conventions' . Bruxelles
1890 .
( [10] ) ويبني كابيتان على أن السبب هو تنفيذ
الالتزام لا وجوده ارتباط مصير كل من الالتزامين المتقابلين بمصير الالتزام الآخر .
ويرتب على هذا الارتباط نظريات الفسخ والدفع بعدم التنفيذ وتحمل التبعة ،
فهذه النظريات جميعاً لا يمكن أن تقوم إلا على أساس أن السبب هو تنفيذ الالتزام لا
وجوده .
ويحدد كابيتان السبب في العقد الملزم للجانبين إذا كان
احتمالياً بوجود الاحتمال ذاته في العقد ( السبب فقرة 18 ص 40 ) ، وفي العقد
الملزم للجانبين الذي يتوخى فيه جميع المتعاقدين غرضاً مشتركا ، كالجمعيات
والشركات ، بالغرض المشترك الذي قصد المتعاقدون تحقيقه ( السبب فقرة 19 ) .
( [11] ) كابيتان في السبب فقرة 25 – ويستعرض
كابيتان العقود الأخرى الملزمة لجانب واحد : فالوكالة بغير اجر سبب الالتزام فيها
هو إسداء جميل للموكل كما في الوديعة بغير اجر – والوعد بالتعاقد سبب الالتزام فيه
هو إتمام التعاقد النهائي – والالتزام بوفاء دين يختلف السبب فيه ، فهو تارة
يكون فكرة التبرع ، وطوراً يكون فكرة التجديد ، وثالثة يكون تحويل
التزام طبيعي إلى التزام مدني ( ويرى كابيتان أن الاعتراف بالالتزام الطبيعي ليس
تجديداً له بل هو إنشاء لالتزام مدني السبب فيه هو الالتزام الطبيعي ) – والكفالة
سبب التزام الكفيل فيها العلاقة بينه وبين المدين ، وكذلك الإنابة في الوفاء ،
وقد يكون هذا السبب تبرعا ، وقد يكون وفاء لدين في ذمة الكفيل للمدين أو في
ذمة المناب للمنيب ، أو قرضاً يعطيه الأول للثاني ( كابيتان في السبب فقرة 26
– فقرة 32 ) .
( [12] ) إلى جانب الحالتين اللتين رأينا
كابيتان يخلط فيهما الباعث بالسبب توجد حالة ثالثة يعتد فيها كابيتان بالباعث
أيضاً ، وذلك إذا أدخل المتعاقدان الباعث في دائرة التعاقد ( champ
contractuel
) ، وأصبح جزءاً من العقد متفقاً عليه . ويختلف كاسبيتان في هذا عن النظرية
الحديثة ، فعنده لا تكفي للاعتداد بالباعث أن يكون معروفاً من المتعاقدين كما
تقول النظرية الحديثة ، بل يجب أن يكون متفقاً عليه بينهما ( كابيتان في
السبب ص 244 ) .
خصوم السبب وأنصاره -نظرية السبب
4/
5
بواسطة
Mostafa Attiya
ماذا يجول بخاطرك ؟ لاتتردد !! عبّر عن نفسك .بعض الكلمات ستتدفق وبعضها سيتعثر لكنها تسعدنا مهما كانت.