15 – البيئة
الاجتماعية التي ظهر فيها عقد الإيجار : لم يكن عقد
الإيجار معروفاً في العصور الأولى للإنسانية ، وقت أن كان النظام الاجتماعي يقضي
بوجود طبقتين من الناس لا ثالث لهما : طبقة الملاك وهؤلاء كانت لهم الأرض والبيوت
، وطبقة العبيد يعملون في الأرض ويخدمون في البيوت لحساب أسيادهم . فلم تكن هناك
حاجة لعقد الإيجار . ولكن هذه الحالة الاجتماعية لم تدم ، وما لبث أن تكون
بالتدريج طبقة وسطى بين الطبقتين ، من عبيد تحرروا فارتفعوا إلى طبقة أعلى ، وملاك
أضاعوا ما يملكون واضطروا إلى تلمس أسباب العيش من كسب أيديهم فهبطوا إلى طبقة
أدنى . وتقابل الفريقان ، فكان منهم ومن نسلهم تلك الطبقة الوسطى التي أشرنا إليها
، وهذه كانت تعمل في أرض الملاك وتسكن بيوتهم . ولذلك نشأت الحاجة إلى عقد الإيجار ، يحدد العلاقة القانونية بين الطبقتين . ومال الملاك من جهة أخرى إلى
استغلال أملاكهم بطريق الإيجار بعد أن تحرر عدد كبير من العبيد ، فلم يعودوا
يستطيعون استغلال الأرض بواسطة العبيد . وأخذت الطبقة العاملة تستغل الأموال ،
وتقتسم الغلة مع أصحاب هذه الأموال ، وتدفع لها نصيبها في شكل أجرة بموجب عقد
إيجار . وسكنت طبقة الملاك إلى هذه الحالة ، فأخذت في تشييد المنازل لإيجارها لمن
لا قبل له بامتلاك المسكن الذي يأوى إليه . وعاد ذلك بالفائدة على الفريقين ،
ففريق المؤجرين يستغلون أموالهم على خير وجه ، وفريق المستأجرين ينتفعون بالشيء
الذي لا يستطيعون امتلاكه .
والظاهر أن أول عقد
عرف هو عقد المقايضة ، وتلاه البيع بعد أن اخترعت النقود ، ثم تلى البيع الإيجار .
فالإيجار من أقدم العقود عهداً ، وكان معروفاً في القانون الروماني كعقد من العقود
الشكلية قبل أني صبح مع البيع من عقود التراضى . وبدأ في أول عهده عند الرومان
يكون بين الحكومة والأفراد ، إذا كانت الحكومة تؤجر للأفراد الأراضي المملوكة لها
والمحاجر والمصايد وغيرها بطريق المزاد العلني . وظهر أثر ذلك في عقود الإيجار بين
الأفراد بعضهم ببعض ، إذا كانوا يقلدون في هذه المعاملات الفردية ما كان متبعا في
عقود الإيجار مع الحكومة ، من تحديد المدة ، ومن تجديد هذه المدة ، بعد انقضائها ،
ومن تقدير الأجرة بمبلغ من النقود ، ومن جعل هذه الأجرة في مقابل الانتفاع وقد
كانت الحكومة لا تتقاضى أجرة على أراضيها إذا امتنع على المستأجر الانتفاع بها
بسبب غزو أو حرب .
ويرى بعض فقهاء
القانون الروماني أن الإيجار اقتصر في أول الأمر على الدواب والعبيد تستأجر في عهد
الحصاد ، ويرى بعض آخر أنه امتد إلى العقار في الوقت الذي تناول فيه المنقولات ،
وأنه بدأ في العقار بالبيوت قبل أن يتناول الأراضي الزراعية وذلك لحاجة الطبقة
الفقيرة إلى السكن . ويفسر أصحاب هذا الرأي ضعف مركز المستأجر إزاء المؤجر من
الوجهة القانونية ، والسبب في الاقتصار على إعطائه حقا شخصيا لا عينيا ، والتقصير
في حماية حيازته حماية كاملة ، بأن طبقة المستأجرين كانت في أول أمرها طبقة
ضعيفة فقيرة ، هذا عدا أسباباً أخرى قانونية خاصة بالقانون الروماني سيأتي ذكرها
في موضعه ( [1]
) .
16 – أهمية عقد
الإيجار : يتضح مما تقدم أن عقد الإيجار هو قوام الطبقة
الوسطى والطبقة الفقيرة ، وهما الطبقتان القائمتان بأهم الأعمال العقلية والمادية
. وهو في الوقت ذاته بالنسبة إلى الطبقة الغنية من خير طرق الاستغلال للأموال .
ولذلك قال الأستاذ دي هلتس بحق إن عقد الإيجار من أكثر العقود تداولا ، وليس بين
الناس إلا من هو مستأجر ، عدا الملاك الذين يسكنون في أملاكهم والمتشردين للذين لا
مأوى لهم ، وحتى الملاك لا تخلو الحال غالباً من أهم يؤجرون ويستأجرون ( [2] )
.
وعقد الإيجار فوق
ذلك يجعل المؤجر والمستأجر في اتصال دائم طوال مدة الإيجار ، مما يستدعى الدقة في
وضع القواعد التي تضبط هذه العلاقة المستمرة ، وتبين حقوق كل من الطرفين وواجباته
. وهذا يجعل القانون المتعلق بالإيجار من القوانين التي يكثر رجوع الناس إليهم في
معاملاتهم ، ويجعل قضايا الإيجار أمام المحاكم من أكثر القضايا عدداً ، مما يستلزم
وضع قواعد خاصة لتنجيز هذه القضايا وسرعة البت فيها .
وقد قيل في فجر
القرن التاسع عشر : (( إن عقد الإيجار تولد من الحاجة إلى التضامن بين الثروة
العقارية والصناعية ، وهو كثير التداول بنوع خاص في بلد تقدمت فيه العلوم والفنون
والتجارة والملاحة إلى حد لم يدع لكثير من الملاك وقتاً لاستغلال أموالهم بأنفسهم
، ولم يوفر لهم الوسائل لذلك . في بلد ليس كل سكانه من ذوي الثروة العقارية ،
وتقتضي فيه المعاملات التجارية أن يبقى جزء كبير من رؤوس الأموال مخصصا للتجارة .
فالإيجارله علاقة وثيقة بالشيئين اللذين يرتبطان بالنظام العام أشد ارتباط ،
وهما الملكية والصناعة. ولذلك كان من الضروري أن يكون للإيجار أحكام من شأنها
المحافظة على الأملاك وترقية الزراعة . ولا يجوز أيضا أن يغيب عن البال تلك الطبقة
الكثيرة العدد ، وليس لها من ملك غير أيديها العاملة ، وليس لها من مأوى إلا ما
تستأجره من أملاك الغير . لذلك وجب أن تكون الأحكام القانونية الخاصة بالإيجار
سهلة واضحة دقيقة )) ( [3] )
.
وإذا كان ما قيل في
الهيئة التشريعية الفرنسية عن الإيجار في فجر القرن التاسع عشر صحيحاً ، فهو الآن
ونحن في النصف الثاني من القرن العشرين أصح وأكثر انطباقاً على حالة المدنية
الحاضرة م وجوهها الاجتماعية والاقتصادية . فعقد الإيجار يعد من المقومات
الاقتصادية للطبقة العامة في العصر الحاضر ، وهذه الطبقة هي التي يقوم عليها صرح
البناء الاجتماعي والاقتصادي في وقتنا هذا . ولذلك كان الإيجار متضمنا لمسألة كبرى
، هي اجتماعية واقتصادية في وقت واحد ، نعالج بحثها فيها يلي بكل إيجاز ( [4] )
.
17 – المسألة
الاجتماعية والاقتصادية التي يتضمنها عقد الإيجار :
يمكن تلخيص هذه
المسألة في العبارة الآتية : يجب أن يتحقق التضامن بين المؤجر والمستأجر من الوجهة
الاجتماعية ، كما يجب من الوجهة الاقتصادية أن يعطي لكل من رأس المال ويمثله
المؤجر ، والعمل ويمثله المستأجر ، نصيبه العادل .
في كل بلد متحضر
توجد طبقة المؤجرين وطبقة المستأجرين ، ولابد من التضامن الاجتماعي بين هاتين
الطبقتين ، وإلا كان كل منهما حربا على الآخر ، يهتبل الفرص لأكل حقه بالباطل .
ومما يساعد على قيام هذا التضامن التشريع المناسب مع حالة البلد الاجتماعية
والاقتصادية ، فيعمل المشرع على جعل مصالح الطبقتين مشتركة لا متنافرة ، حتى يسود
السلام الاجتماعي بين طبقات الأمة الواحدة . ولقد رأينا المشروع في مصر وفي
فرنسا وفي غيرهما من البلدان ، عقب الحربين العالميتين ، يضطر للتدخل لما مال
ميزان المساواة بين الطبقتين ، واشتطت طبقة المؤجرين فأعنتت الطبقة الأخرى ، وغالت
في رفع سعر الأجرة ، بعد أن قلت المساكن ووقفت حركة البناء لغلاء المواد الأولية ،
وبعد أن نزل سعر المحصولات الزراعية ونقصت مقاديرها . كان هذا التدخل من جانب
المشرع – وإن نعى عليه أنصار النشاط الفردي – محموداً بل واجباً في زمن ليس من
الصحيح أن يقال فيه بوجوب ترك القوات الفردية تتناضل لما بينها من التكافؤ .
فالواقع أن القوات الفردية أصبحت في المدينة الحاضرة غير متكافئة من حيث الإنتاج الاقتصادي ، والواقع أيضاً أن
الفرد لا ينزل إلى الميدان كفرد منعزل ، بل هو يتقدم كعضو في طبقة ينتمي إليها ،
والنضال إذا كان موجودا فهو بين الطبقات لا بين الأفراد .
وإذا قلنا بوجوب
تحقيق التضامن والمساواة بين طبقتي المؤجرين والمستأجرين ، فذلك يدعونا إلى النظر
في ظل هذا المبدأ إلى مسألة رئيسية ، هي على أي أساس يجب تحديد الأجرة في عقد
الإيجار ( [5]
) .
18 – أساس تحديد
الأجرة في عقد الإيجار : كتبنا في مؤلفنا في الإيجار الذي وضعناه
في سنة 1929 ، أي منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، هذا الصدد ما يأتي :
(( أما عن الأجرة
فيجب أن يقوم تحديدها على أساس التضامن اللازم بين رأس المال والعمل ، بحيث لا
يجحف أحدهما بالآخر ، فكلا العاملين ضروري للإنتاج . ومستأجر الأرض الزراعية مثلا
لا يجني محصولا من غير مواتاة الأرض له ، والأرض لا تواتي إلا بالعمل . فإذا أريد
تحديد الأجر الذي يؤديه المستأجر للمؤجر ، وجب أن يراعى في ذلك تحقيق المساواة بين
هذين العاملين ، فإذا كان ربح تشاطره الفريقان ، وإن كانت خسارة $28 أصابتهما معاً
.. غير أن للمسألة وجهاً آخر ، وذلك أن المالك إذا أجر ملكه ، فليس ذلك بنية أن
يكون شريكاً للمستأجر يشاطره الربح والخسارة ، وهو لو أراد ذلك لوجد السبيل إليه
في عقد الشركة أو في عقد المزارعة . وإنما يريد أن يضمن لنفسه ريعاً ثابتاً يأخذه
من المستأجر ، ويتركه وشأنه له الربح وعليه الخسارة . وهذا مطلب مشروع لا يجوز أن
يمنع منه المؤجر )) .
(( على أن الأمر
بالنسبة للمستأجر ليس احتماليا إلى الحد الذي قد يظهر مما تقدم ، فإن الشيء المؤجر
إذا كان منزلا للسكني أو مكاناً من الأمكنة الأخرى أو منقولا ، فانتفاع المستأجر
به غير احتمالي ، بل هو مؤكد ، وهو يعطي للمؤجر الأجرة التي تقابل هذا الانتفاع .
والمشرع في ذلك يرقب ألا يجحف المؤجر بالمستأجر في ظروف استئنافية ، كالظروف التي
جدت عقب الحرب وسبقت الإشارة إليها وعالجها المشرع علاجاً خاصاً )) .
(( وأما إن كان
الشيء المؤجر أرضاً زراعية فهنا موضع البحث والنظر ، لأن المحصولات الزراعية – لا
سيما في مصر – غير ثابتة ، لا من حيث أسعارها ، ولا من حيث مقاديرها . لذلك نرى
مؤجرى الأرض الزراعية هم في الغالب الفائزون ، لأنهم يتقاضون عن أراضيهم أجرة لا
يراعون في تحديدها إلا مصلحتهم ، غير ناظرين إلى الظروف التي أصبح حدوثها في مصر
أمراً معتاداً ، من آفة تصيب الزراعة فتنقص المحصول إلى النصف أو الثلث في بعض
الأحيان ، ومن هبوط فاحش في أسعار المحصولات لا يد للمستأجر فيه ولا طاقة له بدفعه
، وكل هذه الخسارة ينفرد بها المستأجر بدعوى أن العقد قانون المتعاقدين ، وأن
المستأجر التزم بدفع أجرة معينة فيجب عليه القيام بما التزم به . ومن هنا نجد أن
الميل الغالب عند ملاك الأراضي الزراعية هو أن يؤجروها لا أن يزرعوها لحسابهم ،
لأنهم يعلمون أن الغانم في أغلب الأحيان هو المؤجر ، وأن على غيره تقع الخسارة ))
.
(( هذه الحالة
السيئة التي وجد فها صغار مستأجري الأرض الزراعية في مصر قضت عليهم أن يبقوا
في شظف من العيش ، وأن يكدوا وينصبوا فلا يجزوا بعد هذا إلا الكفاف . وليس من
العدل أن يقف المشرع أمام ذلك مكتوف اليد ، يرى طبقة الفلاحين في هذا الضنك
مسلوبين من ثمرة عملهم . ولا يجب أن نغتر بسكوت هذه الطبقة عن المطالبة بحقوقها ،
فإنها إن سكتت اليوم عن ذلك لما هي فيه من الجهل المخيم ، فهي ستتنبه غدا إلى سوء
حالتها ، متى قام بين ظهرانينها جيل متعلم يوجه اهتمامه إلى المسائل الاجتماعية
والاقتصادية ، فيشعرها بما هي فيه من الشقاء . وقد بدأ بعض الفلاحين ينزح إلى
المدن والبندر حيث العيش أرغد ، ويخشى لو دام الحال على ذلك أن تقل الأيدي العاملة
في الزراعة . والعلاج في نظرنا يجب أن يتولاه كل من الاقتصادي والمشرع . أما
الاقتصادي فيجب أن يعمل لتنمية روح التعاون بين الفلاحين وإنشاء النقابات اللازمة
لذلك ، والمشرع يعني فيما يعني به من شؤون الزراعة بوضع قواعد لتحديد أجرة الأرض
الزراعية ، بحيث لا يغبن المؤجر ولا يضار المستأجر )) ( [6] )
.
كتبنا هذه الكلمات
منذ أكثر من ثلاثين عاما ، وكأننا كنا نقرأ في كتاب الغيب . فقد تحقق كل ما ذكرناه
، وتدخل المشرع إلى أبعد حدود التدخل ، ووضع حداً أقصى لأجرة الأماكن ، وحداً أقصى
لأجرة الأراضي الزراعية . وانقلبت الموازين ، فشالت كفة المؤجر ، وثقلت كفة
المستأجر . وسنرى كيف أن قوانين إيجار الأماكن وقوانين الإصلاح الزراعي قلبت
الأمور رأساً على عقب ، وبعد أن كان حق المستأجر موكوساً صار هو الأعلى . وثأر
المستأجرون والفلاحون لأنفسهم ، وقد تنبأنا لهم بذلك فيما قدمناه . ونرجو ألا يكون
هناك شطط ، فيصبح المغبون هو الغابن ، ويعد الميزان إلى الاختلال . ونحن إنما ننصح
بالتضامن بين طبقتي المؤجرين والمستأجرين ، لا بالصراع بينهما .
السابق<< تمييز عقد الايجار عن العقود الأخرى التالي>> التنظيم التشريعي لعقد الايجار
عقد الإيجار من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية
4/
5
بواسطة
Mostafa Attiya
ماذا يجول بخاطرك ؟ لاتتردد !! عبّر عن نفسك .بعض الكلمات ستتدفق وبعضها سيتعثر لكنها تسعدنا مهما كانت.