الجزاء : نظرية البطلان
298 – نظرية البطلان في القانون القديم وفي القانون الحالي :
بطلان العقد هو الجزاء القانوني على عدم استجماع العقد لأركانه كاملة
مستوفية لشروطها ، على النحو الذي بيناه فيما تقدم . ولذلك كان منطقياً أن نتكلم
في بطلان العقد على اثر الفراغ من الكلام في أركانه .
ولم يكن القانون القديم يفرد مكاناً لنظرية البطلان ، بل كنا نجد
القواعد العامة في البطلان تحتويها نصوص متناثرة في أمكنة متفرقة متباعدة ، كما هو
شأن القانون المدني الفرنسي . أما القانون الحالي فقد عنى بأن يفرد لنظرية البطلان
مكاناً خاصاً ، جمع فيه النصوص الرئيسية التي ترسم القواعد العامة في بطلان العقد
( م 138 – 144 ) .
299 – ضرورة تمييز البطلان عما يقاربه من النظم:
ويحسن منذ البداية أن نميز البطلان ( nullité ) عما يقاربه من النظم . نميز بينه وبين عدم
السريان ( inopposabilité
) ، وبينه وبين الفسخ ( résolution
) .
فالبطلان هو إعدام اثر العقد بالنسبة إلى المتعاقدين ، وبالنسبة إلى
الغير تبعاً لذلك .
وقد يكون العقد صحيحاً ينتج أثره فيما بين المتعاقدين ، ولكنه لا
يسري في حق الغير . فالعقد الحقيقي في الصورية صحيح فيما بين المتعاقدين ، غير
نافذ في حق الغير . والعقد غير المسجل صحيح فيما بين المتعاقدين ، ولكن لا يحتج به
على الغير . والعقد غير ثابت التاريخ تاريخه حجة على المتعاقدين دون أن يكون حجة
على الغير . والعقد الذي أبرمه المدين المعسر إضراراً بحق دائنه صحيح فيما بين
المتعاقدين ، ولكن لا يسري في حق الدائن إذا طعن فيه بالدعوى البوليصية . والبيع
في مرض الموت صحيح فيما بين المتعاقدين ، ولكن لا يسري في حق الورثة فيما يجاوز
ثلث التركة . بل قد يكون العقد ثابت للإبطال فيما بين المتعاقدين وهو في الوقت
ذاته لا يسري في حق الغير . فبيع ملك الغير قابل للإبطال فيما بين البائع والمشتري
، ثم هو لا يسري في حق المالك الحقيقي ، وقد يجيز المشتري العقد فيزول البطلان
ويبقى عدم السريان . والبطلان إذا كان قابلا للزوال يزول بالإجازة (confirmation
) على ما سنرى . أما عدم السران فيزول بإقرار الغير للعقد (ratification ) على ما سنرى . أما عدم
السريان فيزول بإقرار الغير للعقد (ratification) . ويلاحظ فيما قدمناه
من الأمثلة أن " الغير " ليس له مدلول واحد ، فيختلف مدلوله في مثل عنه
في المثل الآخر .
والفرق بين البطلان والفسخ أن البطلان يرجع إلى عيب في ركن من أركان
العقد ، أما في الفسخ فأركان العقد سليمة مستوفية لشروطها ، فينشأ العقد صحيحاً ،
ثم لا ينفذ أحد المتعاقدين التزامه فيسقط التزام المتعاقد الآخر ، ولذلك لا يكون
الفسخ إلا في العقد الملزم للجانبين .
300 – أنواع البطلان:
لما كان البطلان يعد العقد ، فإن المنطق يقضي بأن يكون البطلان درجة
واحدة لا تقبل الدرج ، إذ العدم لا تفاوت فيه . ولكن نظرية البطلان ، مع هذه
البساطة النقطة ، قد تعقدت لاعتبارات تاريخية ، ولاعتبارات ترجع إلى النصوص
التشريعية ، ثم لمحاولة الفقهاء أن يقسموا البطلان تبعاً لذلك إلى مراتب متدرجة .
ومن ثم قالت النظرية التقليدية بتقسيم ثلاثي للبطلان . وقد هوجمت من ناحيتين
مختلفتين : فكثرة الفقهاء يكتفون بتقسيم ثنائي ، وبعضهم لا يكفيهم التقسيم الثلاثي
ويذهب إلى تنويع البطلان مراتب متعددة .
فالنظرية التقليدية تقسم البطلان كما قدمنا إلى مراتب ثلاث :
الانعدام ( inexistence
) والبطلان المطلب ( nullité absolue
) والبطلان النسبي ( nullité relative
) . وأساس التقسيم هو وجود أركان للعقد لا بد من قيامها حتى يتكون . ولهذه الأركان
شروط لا بد من توافرها حتى لا تختلف . وركن من هذه الأركان – وهو الرضاء – لا بد
أن يصدر من ذي أهلية كاملة وألا يكون مشوباً بعيب حتى يكون صحيحاً . وأركان العقد
الرضاء والمحل والسبب ، وكذلك الشكل في العقود الشكلية ، فإذا انعدم ركن منها أكان
العقد منعدماً . وشروط المحل أن يكون ممكناً معيناً مشروعاً ، وشرط السبب أن يكون
مشروعاً ، فإذا اختل شرط من هذه الشروط كان العقد باطلا بطلاناً مطلقاً . وإذا صدر
الرضاء من ناقص الأهلية أو شابه عيب كغلط أو تدليس أو إكراه ، كان العقد باطلا
بطلاناً نسبياً .
وكثرة الفقهاء تنعي على النظرية التقليدية تمييزها بين العقد المنعدم
والعقد الباطل بطلاناً مطلقاً . إذ التمييز يصطدم من المنطق ، وليس بذي فائدة .
أما أنه يصطدم من المنطق فلأن العقد الباطل بطلاناً مطلقاً ليس له وجود قانونين ،
فهو يستوي في الانعدام مع العقد المنعدم ، ولا يمكن أن يقال إن العقد المنعدم اشد
انعداماً من العقد الباطل بطلاناً مطلقاً إذ لا تفاوت في العدم كما قدمنا . وأما
أن التمييز غير ذي فائدة فلأن أحكام العقد الباطل بطلاناً مطلقاً هي عين أحكام
العقد المنعدم : كلا العقدين لا ينتج أثراً ، ولا تلحقه الإجازة ، ولا يرد عليه
التقادم . والواقع أن التمييز بين الانعدام والبطلان المطلق خلقه الفقه الفرنسي في
مناسبة عقد الزواج ، إذ قرر هذا الفقه ألا بطلان في هذا العقد دون نص ، صيانة له
من التزعزع . فقامت حالات بطلان لا شك فيها ، ولكن لم يرد في شأنها نص ، كما إذا
كان الزوجان من جنس واحد ، وكما إذا تولى العقد من ليست له الصفة الرسمية في توليه
. فخلقت نظرية الانعدام حتى تغطى هذه الحالات . وكان الأولى عدم التقيد بالقاعدة
الضيقة التي تقضي بان الطبلان لا يكون بغير نص في عقد الزواج ، أو في القليل قصر
هذه القاعدة على الزواج فإن طبيعته تغاير طبيعة العقود في دائرة المعاملات المالية
.
وهناك من الفقها من يذهب ، على النقيض مما تقدم ، إلى عدم الاقتصار
على مراتب البطلان الثلاث التي تقول بها النظرية التقليدية . فإن هذا التقسيم
الثلاثي في نظرهم تقسيم ضيق جامد لا يتسع لمختلف الحاجات . وأصحاب هذا الرأي
يقولون إن القانون عين شروطاً للعقد حتى ينتج آثاراً معينة ، وكل شرط من هذه
الشروط يتطلبه القانون للوفاء بغرض معين ، فإذا اختل شرط كان العقد باطلا في
الناحية التي تتلاءم مع هذا الشرط ، فتتعدد وجوه البطلان وتتنوع مراتبه تبعاً
للأغراض التي توخاها القانون ([2]) .
ومهما قيل في مرونة هذا الرأي وفي أنه يفسر استعصاء بعض مسائل البطلان على الخضوع
للقواعد التقليدية ، كما في إجازة الواهب أو ورثته لهبة لم يتوافر فيها شرط الشكل
( م 489 ) ، وكما في شذوذ بيع ملك الغير وإمكان إجازته بإقرار المالك وهو
أجنبي ( م 467 ) ، وكما في بطلان عقد الشركة الذي لم يستوف الشكل مع عدم جواز
أن يحتج الشركاء بهذا البطلان على الغير ( م 507 ) ، إلا أن هذه الحالات
الخاصة لها ما يفسرها تفسيراً ملائماً ، وهي لا تسوغ نقض القواعد الثابتة المستقرة
في البطلان لتحل محلها قواعد ليس لها من الثبات والاستقرار ما يبرر الاطمئنان
إليها ([3]) .
فالوقوف عند التقسيم الثلاثي خير من تشتت قواعد البطلان في غير ثبات
ولا استقرار . وخير من التقسيم الثلاثي التقسيم الثنائي إلى عقد باطل بطلاناً
مطلقاً ( ويدخل فيه العقد المنعدم ) وعقد باطل بطلاناً نسبياً ، لما قدمناه من عيب
التمييز ما بين العقد المنعدم والعقد الباطل بطلاناً مطلقاً . بل خير من التقسيم
الثنائي الرجوع إلى المنطق الصحيح وجعل البطلان درجة واحدة لا تفاوت فيها هي
البطلان المطلق . ذلك لأن العقد الباطل بطلاناً نسبياً يمر كما سنرى على مرحلتين :
( المرحلة الأولى ) قبل أن يتعين مصيره بالاجازة أو بالإبطال ، ويكون له في هذه
المرحلة وجود قانونين كامل ، فينتج كل الآثار القانونية التي كانت تترتب عليه لو
نشأ صحيحاً . ( والمرحلة الثانية ) يلقى فيها العقد أحد مصيرين ، فإما أن تلحقه
الإجازة أو يتم في شأنه التقادم فيزول البطلان ويستمر العقد صحيحاً منشئاً لجميع
آثاره ، فلا يعود هناك فرق بينه وبين العقد الصحيح ، وإما أن يتقرر بطلانه فينعدم
وجوده القانونين انعداما تاماً وتزول جميع الآثار القانونية التي أنشأها ويكون
لهذا كله اثر رجعي ، فلا يعود هناك فرق بينه وبين العقد الباطل بطلاناً مطلقاً .
فالعقد الباطل بطلاناً نسبياً كما نرى لا يعدو في مآله أن يكون عقداً صحيحاً إذا
لحقته الإجازة أو ورد عليه التقادم ، أو عقداً باطلا بطلاناً مطلقاً إذا تقرر
بطلانه . فهو إما عقد صحيح على الدوام ، وإما عقد باطل بطلاناً مطلقاً منذ البداية
. والواقع من الأمر أن البطلان النسبي ليس شيئاً مستقلا يقوم إلى جانب البطلان
المطلق ، وما هو إلا تعبير مناسب عن حالة عقد يمر على المرحلتين المتقدم ذكرهما ،
فيؤول أمره في النهاية إلى الصحة التامة أو إلى البطلان المطلق . ومن ثم فليس هناك
إلا نوع واحد من البطلان ، يندمج فيها البطلان النسبي ، كما اندمج فيه الانعدام ([4]) .
301 – تأصيل البطلان :
على أن إرجاع أنواع البطلان كلها إلى البطلان
المطلق إذا كان يرضى المنطق القانونين فهو لا ييسر الصياغة الفنية لنظرية البطلان
وما تواجهه من حالات متغايرة تقتضي شيئاً من التنوع . والأولى من ناحية الصياغة
المحضة الرجوع إلى التقسيم الثنائي ، فيكون العقد باطلا بطلاناً مطلقاً أو باطلا
بطلاناً نسبياً ، أو كما يقول القانون الحالي يكون العقد باطلا أو قابلا للإبطال .
ونقف عند هذا التقسيم ، على أن نتولى تأصيله .
فالبطلان إما أن يرجع إلى اعتبارات شكلية أو إلى اعتبارات موضوعية .
ففي الحالة الأولى يكون العقد الشكلي الذي لا يتوافر ركن الشكل فيه باطلا ، ولكن
بالقدر الذي يتطلبه القانون من الشكل . وقد أسلفنا أن الشكل إنما هو من صنع
القانون ، والقانون هو الذي يعين له الجزاء الكافي في حالة الإخلال به . فقد يجعل
العقد الذي لم يستوف الشكل المطلوب باطلا لا تحلقه الإجازة . وقد يسمح باجازته كما
في الهبة الباطلة شكلا ( م 489 ) وكما في الشركة التي لم تستوف الشكل المطلوب
( م 507 ) . وقد يجعل الشكل من المرونة بحيث يقبل أن يستكمل وأن يحتج به فرض
دون فرض كما في شركات التضامن والتوصية . فالشكل كما قدمنا من خلق القانون ، صنعه
على عينه ، ويقدمه على القالب الذي يختاره ([5]) .
ونحن في هذه الدائرة وحدها – دائرة البطلان لعدم استيفاء الشكل المطلوب – نتمشى مع
القائلين بتنوع مراتب البطلان .
أما إذا رجع البطلان إلى اعتبارات موضوعية ، فهنا يجب التأصيل عن
طريق تحليل عناصر العقد . وقبل ذلك نقول أن البطلان قد يرجع إلى نص في القانون
لحكمة يتوخاها المشرع ، كما في بطلان بيع ملك الغير ( م 466 ) وفي بطلان تصرف
السفيه الصادر قبل تسجيل قرار الحجر ( م 115 ) . وهذا النوع من البطلان هو
بطلان خاص يتبع في شأنه النص الذي يعالجه . ولكن البطلان الذي يخضع للقواعد العامة
يرجع أكثر ما يرجع إلى اعتبارات موضوعية نتولى الآن تقعيدها .
ذلك أن للعقد أركاناً ثلاثة هي الرضاء والمحل والسبب . فإذا انعدم أي
ركن منها فإن العقد لا يقوم طبيعة ، ويكون باطلا . ومثل انعدام الركن اختلال شرطه
. فالرضاء يشترط فيه التمييز وتقابل الإيجاب والقبول مع تطابقهما ، والمحل يشترط
فيه الإمكان والتعيين والمشروعية ، والسبب تشترط فيه المشروعية . فشروط التمييز
والتقابل والتطابق في الرضاء ، وشرط الإمكان والتعيين في المحل هي شروط طبيعية لا
يقوم العقد بدونها . وشرط المشروعية في المحل وفي السبب هو شرط قانونين لا يقوم
العقد أيضاً بدونه . فإذا اختل شرط من هذه الشروط كان العقد باطلا ([6]) .
والبطلان هنا تمليه طبيعة الأشياء أو يفرضه القانون حماية لمصلحة عامة . والعقد
الباطل منعدم طبيعة أو شرعاً ، فلا ينتج أثراً ، ويجوز لكل ذي مصلحة أن يتمسك
ببطلانه ، وللمحكمة أن تقضي بالبطلان من تلقاء نفسها ، ولا تصح إجازته ، ولا يرد
عليه التقادم .
وهناك ركن في العقد قد يقع أن يكون قائماً مستوفياً لشروطه ولكن لا
تتوافر له أسباب الصحة ، وهذا هو الرضاء . فالرضاء كما رأينا يكون موجوداً
مستوفياً لشروطه حتى لو صدر من ناقص الأهلية وحتى لو صدر عن غلط أو تدليس أو إكراه
أو استغلال ، ولكنه يكون رضاء معيباً غير صحيح . وفي هذه الحالة يقوم العقد
مستوفياً أركانه ، فهو منعقد تترتب عليه آثاره . ويبقى أن المتعاقد الذي صدر منه
رضاء مختل أو رضاء معيب يكون من حقه أن يحميه القانون إذا هو طلب هذه الحماية .
فله وحده أن يطلب إبطال العقد ، كما له أن يجيزه ، وإذا سكت سقط حقه في إبطال
العقد بالتقادم . ذلك أن هذا الحق في إبطال العقد إنما قرره القانون لا لحماية
مصلحة عامة ، بل لحماية مصلحة المتعاقد الخاصة ، يعالج به ما اعتور رضاءه من نقص ([7]) .
وليس فيما قدمناه من تأصيل للبطلان إلا نتائج منطقية لمقدمات تؤدى
إليها ، ومعلولات معقولة لعلل ظاهرة ([8]) .
302 – خطة البحث :
والآن نستطيع أن نرسم خطة لبحث نظرية البطلان . فالعقد الباطل والعقد القابل للإبطال يمران بأدوار مختلفة منذ نشأتهما إلى أن يتقرر بطلانهما . فقد يترتب عليهما بعض الآثار ، وقد يرد على العقد القابل للإبطال الإجازة أو التقادم فينقلب صحيحاً . ولكن في أكثر الأحوال يطلب ذو الشأن تقرير بطلان العقد فينعدم .
فالأدوار إذن ثلاثة : ( 1 ) ترتيب الآثار . ( 2 ) الإجازة والتقادم .
( 3 ) تقرير البطلان . ونتولى بحث كل من هذه الأدوار .
المبحث الأول:الآثار التي تترتب على العقد الباطل والعقد القابل للإبطال
303 – الآثار العرضية والآثار الأصلية :
العقد الباطل ليس عملا
قانونياً ( acte juridique
) إذ هو كعقد لا وجود له ، ولكنه عمل مادي ( acte matériel ) أو واقعة قانونية ( fait juridique ) . وهو بهذه المثابة قد
ينتج أثراً قانونياً ، ليس هو الأثر الأصلي الذي يترتب على العمل القانونين
باعتباره عقداً ، بل هي اثر عرضي يترتب على العمل المادي باعتباره واقعة قانونية .
على أن العقد الباطل قد ينتج في حالات الاستثنائية أثره الأصلي باعتباره عقداً ،
وهذا شذوذ تقتضيه تارة ضرورة استقرار التعامل ، وطوراً وجوب حماية حسن النية .
والعقد القابل للإبطال إذا تقرر بطلانه انعدم منذ البداية ، وصار هو
والعقد الباطل بمنزلة سواء . فإذا قلنا العقد الباطل ، كان المقصود أن يدخل في
مضمونه العقد القابل للإبطال بعد أن يتقرر إبطاله ([9]) .
ونتناول الآن كلا من الآثار العرضية والآثار الأصلية للعقد الباطل .
المطلب الأول:الآثار العرضية للعقد الباطل
304 – استعراض بعض هذه الآثار :
قد ينتج العقد الباطل آثاراً
باعتباره واقعة مادية كما قدمنا . من ذلك الزواج غير الصحيح ، فهو في الشريعة
الإسلامية لا ينتج آثاره الأصلية كحل التمتع ووجوب النفقة والتوارث ما بين الزوجين
، ولكنه ينتج آثاراً عرضية كوجوب العدة في بعض الأحوال ووجوب المهر بعد الدخول
وثبوت النسب احتياطاً وسقوط الحد ولو مع العلم بالبطلان على خلاف في الرأي ([10])
. وهذه الآثار لا تترتب على الزواج باعتباره عقداً ، فهو بهذا الاعتبار باطل لا
ينتج أثراً ، ولكنها تترتب عليه باعتباره واقعة مادية . فإذا وقع أن رجلا وامرأة
ارتبط أحدهما بالآخر كما لو كانا زوجين ، فالعدة واجبة على اثر هذا الاتصال الفعلي
، والبنوة تابتة بطبيعة الأشياء ، والمهر بمثابة تعويض عن الدخول ، وسقوط الحد عند
من يقولون به يكون للشبهة لا لقيام رباطة الزوجية .
وهناك من الإجراءات ما يكون باطلا ، ولكنه ينتج بعض الآثار . من ذلك
صحيفة الدعوى إذا كلف فيها المدعى عليه بالحضور أمام محكمة غير مختصة ، فتكون
باطلة وهي مع ذلك تقطع التقادم ( م 383 جديد ) . ومن ذلك أيضاً العطاء اللحق في
المزايدة يسقط العطاء السابق حتى لو كان العطاء اللاحق باطلا ( م 99 جديد ) .
ومن أهم الآثار العرضية التي ينتجها العقد الباطل أثران يستخلصان من
تطبيق نظريتين معروفتين ، إحداهما نظرية تحول العقد ، والأخرى نظرية الخطأ عند تكوين العقد . ونقول كلمة موجزة عن كل منهما .
التالي> نظرية تحول العقد
[1] ^ وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : "
اتقي المشروع ما تستهدف له التقنينات اللاتينية من مآخذ حين تجمع بين أحكام
البطلان وأسباب انقضاء الالتزامات في صعيد واحد . وقد نهج في هذا الشأن نهج
التقنين البرازيلي . وجعل للبطلان نظرية جامعة ، فهيأ بذلك مكانا
مناسباً لطائفة من الأحكام تناثرت وانفرط عقدها ، مع ما بينهامن سبب جامع ،
كالنصوص الخاصة بالتزام ناقص الأهلية برد ما تسلمه عند إبطال العقد . وقد
استمسك المشروع بتقاليد المذهب اللاتيني فيما استحدث في هذا الشأن بوجه عام ،
على أن المذهب الجرماني لم يعدم أثره في هذه الناحية . فقد اقتبس المشروع
أحكاماً هامة من التقنينين الألماني والسويسري . فمن ذلك . . .
نظرية انتقاص العقود ونظرية تحويل العقود أو انقلابها ، وتطبق الأولى عند
ورود البطلان المطلق أو النسبي على شق من العقد ، وتطبق الثانية إذا توافرت
للعقد الباطل أو القابل للبطلان شروط انعقاد عقد آخر ( أنظر المادتين 139 ،
140 من التقنين الألماني ) . ويراعى من ناحية أخرى أن المشروع قد نص على تقادم
دعوى البطلان بانقضاء ثلاث سنوات ، مستلهما في ذلك تقنين الالتزامات السويسري
( أنظر المادة 229 وهي تجعل المدة سنة واحدة ) ، هذا فضلا عن التقادم الطويل
المقرر بمقتضى القواعد العامة . ويراعى أن مبدأ سريان التقادم القصير في هذه
الحالة يختلف عن مبدأ سريان التقادم الطويل ، ولذلك يكون لهذا التقادم الطويل
أثره إذا اكتملت مدته قبل انقضاء أجل السنوات الثلاث " ( مجموعة الأعمال
التحضيرية ج 2 ص 233 – ص 234 ) .
[2] ^ أنظر دروجول ( Drogoul ) في رسالته في
النظرية العامة في البطلان ص 206 وما بعدها – جابيو ( japiot
) في رسالته في بطلان العقود ص 151 وص 154 .
[4] ^ وقد ورد في " نظرية العقد " للمؤلف ( ص 618 هامش رقم 1 ) في هذا
الصدد ما يأتي : " لا توجد هناك ثلاث أحوال للعقد مستقلة بعضها عن البعض
الآخر : الصحة والبطلان النسبي والبطلان المطلق ، بل لا توجد إلا حالتان :
الصحة والبطلان المطلق . والعقد الباطل بطلاناً نسبياً هو عقد يمر على هاتين
الحالتين واحدة بعد الأخرى ، فهو متميز عن العقد الصحيح الذي لا يمر إلا على
حالة الصحة ، ومتميز عن العقد الباطل بطلاناً نسبياً متميزاً على هذا النحو ،
فالبطلان النسبي نفسه ليس حالة قائمة بذاتها بين الصحة والبطلان المطلق " .
[6] ^ وقد تضمن المشروع التمهيدي نصاً يجمع الحالات التي يكون فيها العقد باطلا ،
فنصت المادة 193 من هذا المشروع على ما يأتي :
" يكون العقد باطلا في
الحالات الآتية :
أ ) إذا ابرمه شخص لا أهلية له إطلاقاً .
ب ) إذا انعدم فيه الرضاء أو المحل أو السبب ، أو إذا لم تتوافر في
المحل أو في السبب شروطه الجوهرية .
ج ) إذا اشترط القانون في العقد شكلا يكون باطلا بدونه ولم يستوف العقد هذا
الشكل . أو إذا اغفل المتعاقدان إجراء شكلياً يعتبره القانون ركناً في تكوين
العقد .
د ) إذا ورد في القانون نص خاص على البطلان " .
وقد حذفت هذه المادة في المشروع النهائي "
لأن أحكامها منصوص عليها في المواد السابقة " . ( مجموعة الأعمال
التحضيرية ج 2 ص 250 في الهامش ) .
[7] ^ وقد تضمن المشروع
التمهيدي نصا يجمع الحالات التي يكون فيها العقد قابلا للإبطال . فنصت المادة
195 من هذا المشروع على ما يأتي :
" يعتبر العقد قابلا للإبطال
في الأحوال الآتية :
ا ) إذا كان أحد المتعاقدين ناقص الأهلية .
ب ) إذا شاب الرضاء غلط أو تدليس أو إكراه أو استغلال .
ج ) إذا ورد في القانون نص خاص يقضي بأن العقد قابل للبطلان " .
وقد حذفت هذه المادة في المشروع النهائي " لأن أحكامها منصوص عليها في
المواد السابقة " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 235 في الهامش ) .
[8] ^ وقد جاء في
المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ترد أسباب
البطلان المطلق إلى تخلف ركن من أركان العقد ، كعدم توافر الأهلية اطلاقاً
بفقدان التمييز وانعدام الإرادة تفريعاً على ذلك أو كانتفاء الرضاء أو عدم وجود
المحل حقيقة أو حكماً . وغنى عن البيان أن تخلف ركن من أركان العقد ، في
حكم الواقع زوحكم القانون ، يحول دون انعقاده أو وجوده . وهذا هو ما
يقصد بالبطلان المطلق . أما البطلان النسبي فهو يفترض قيام العقد أو وجوده من
حيث توافر أركانه ولكن ركناً من أركانه هو الرضاء يفسد بسبب عيب يداخله ، أو
بسبب نقص أهلية أحد العاقدين ، ولذلك يكون العقد قابلا للبطلان بمعنى أنه
يبطل إذا طلب ذلك من شرع البطلان لمصلحته ، وهو من داخل رضاءه العيب أو من لم
تكتمل أهليته . ومن الجلى أن قابلية العقد للبطلان إنما تمثل العقد في مرحلتين
متتابعتين : الأولى مرحلة الصحة وينتج فيها العقد جميع آثاره ، والثانية
مرحلة البطلان ويعتبر العقد فيها باطلا لا حكم له من وقت نشوئه . فليست ثمة
مراحل ثلاث ، الصحة وقابلية البطلان والبطلان ، وإنما توجد مرحلتان ،
الصحة والبطلان . وقد يقرر البطلان المطلق أو النسبي بمقتضى نص خاص في
القانون " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 255 – ص 256 ) .
هذا ويمكن القول إن القوانين الأخرى ، من قديمة وحديثة ، تعرف
تقسيم البطلان إلى مراتب متعددة ، وتجعل هذه المراتب متدرجة طبقاً لما ينتجه
العقد الباطل من الآثار .
فالقانون الألماني يعرف البطلان المطلق والبطلان النسبي ( م 141 – 142 ) .
بل إن الفقه الألماني يعرف العقد المنعدم .
ويميز قانون الالتزامات السويسري بين العقد الباطل بطلاناً مطلقاً ( م 11 و
19 و 20 ) والعقد الباطل بطلاناً نسبياً ( م 21 و 23 و 25 و 26 و 28 و 29 ) .
والقانون الإنجليزي يميز بين العقد الباطل بطلاناً مطلقاً ( void ) ويدخل فيه العقد
المنعدم ، والعقد الباطل بطلاناً نسبياً ( voidable
) والعقد غير النافذ ( unenforceable ) . ويريد بالاخير عقد
صحيحاً لا يمكن إثباته طبقاً للقواعد القانونية ، كعقد غير مكتوب لا يجوز
إثباته بغير الكتابة . مثل هذا العقد لا يكون باطلا ولا يجوز طلب إبطاله ،
ولكن لا تمكن المطالبة بتنفذه ، على أنه إذا نفذه الملتزم اختياراً فليس له
أن يسترد ما فدع . وظاهر أن هذا الفرض هو إحدى حالات الالتزام الطبيعي في
القانونين المصري والفرنسي ، ولما كان القانون الإنجليزي لا يعترف بالالتزام
الطبيعي كنظرية عامة ، فقد وضع إحدى حالاته في نظرية البطلان .
أما الشريعة إسلامية فلها نظامها الخاص في
تدرج العقد على مراتب متعددة من حيث ظهور أثره . ومراتب العقود حسب تدرجها من
الضعف إلى القوة هي العقد الباطل ، ثم الفاسد ، ثم الموقوف ، ثم
النافذ ، ثم اللازم وهو أقوى مراتب العقود من حيث ظهور الأثر . فالعقد
الباطل ما ليس مشروعاً لا أصلاً ولا وصفاً ، أي ما كان في ركنه أو في محله
حلل ، وهو لا ينعقد أصلاً ولا يفيد الملك في الأعيان المالية ولو بالقبض .
والعقد الفاسد هو ما كان مشروعاً بأصله لا بوصفه ، بان يكون المعقود عليه أو
بدله مجهولا جهالة فاحشة ، أو يكون العقد خالياً من الفائدة ، أو يكون
مقروناً بشرط من الشرائط الموجبة لفساد العقد . وهو لا يفيد الملك في المعقود
عليه إلا بقبضه برضا صاحبه . والعقد الموقوف هو ما كان العاقد فيه فضولياً
تصرف في ملك غيره بلا إذنه ، أو كان صبياً مميزاً . فلا يظهر اثر العقد
الموقوف ولا يفيد ثبوت الملك إلا إذا أجازه المالك في الصورة الأولى ، والولى
أو الوصى في الصورة الثانية . والعقد النافذ هو ما صدر من ذى أهلية كاملة
فيما يملك التصرف فيه . والعقد اللازم هو ما كان خالياً من خيارات أربعة :
خيار التعيين وخيار الشرط وخيار العيب وخيار الرؤية . ويستخلص من ذلك أن
قواعد البطلان في الشريعة الإسلامية تختلف اختلافاً واضحاً عن قواعد البطلان في
القانون الحديث .
[9] ^ وقد يكون العقد
القابل للإبطال قبل أن يتقرر بطلانه منتجا لبعض الآثار كواقعة مادية لا كعقد .
فهو يصلح أن يكون سبباً صحيحاً ناقلا للملكية يستند إليه الحائز في التملك
بالتقادم الخمسي ، بخلاف العقد الباطل فإنه لا يصلح لذلك . فإذا اشترى
شخص عقاراً من غير المالك ، وكان البائع قاصراً ، صلح هذا البيع أن يكون
سبباً صحيحاً ، وتملك المشتري العقار بالتقادم الخمسى ، وظاهر أن البيع
الصادر من القاصر غير المالك يعتبر في العلاقة ما بين المشتري والمالك الحقيقي
واقعة مادية لا عقداً . وهو لا يكون سبباً صحيحاً إلا قبل إبطاله ، أما
ذاا أبطله القاصر أو المشتري فإنه لا يعود صالحاً لأن يكون سبباً صحيحاً .
ويتصور أن المشتري يبطله إذا كان من مصلحته أن يرجع العقار إلى صاحبه ويرجع بالثمن
على القاصر ، لاسيما إذا نزلت قيمة العقار عن الثمن وأمكن المشتري أن يرجع
بالثمن على القاصر باعتبار أنه قد أفاد منه إفادة كاملة .
الجزاء:نظرية البطلان -تمييزه-أنواعه-تأصيله -آثاره
4/
5
بواسطة
Mostafa Attiya
ماذا يجول بخاطرك ؟ لاتتردد !! عبّر عن نفسك .بعض الكلمات ستتدفق وبعضها سيتعثر لكنها تسعدنا مهما كانت.