كلمة افتتاحية
هذا هو الوسيط أقدمه بين يدى رجال القانون أقوى ما أكون أملا فى أن يملأ فراغا وأن يسد حاجة. وقد اعتزمت فيه بمشيئة الله أن أشرح القانون المدنى الجديد.
والوسيط هو الوسط ما بين الوجيز والمبسوط . ولئن جعل الله في العمر بقية ، وأمدنى بعون من عنده ، أخرجت بعد الوسيط الوجيز ، ثم استعنت برفقة من زملائى في إخراج المبسوط . فتتم بذلك حلقات ثلاث ، ينتظمها عقد واحد . والوسيط هو واسطة هذا العقد . تجمله فيصبح وجيزاً . وتفصله فيصير مبسوطاً. ومن أجل ذلك اخترت أن أبدأ به . فهو أوفى من الوجيز فى سد حاجات العلم والعمل . وهو أدنى من المبسوط للباحث الذى لا يملك غير وقت محدود.
***
وبعد
فطابع القانون المدنى الجديد الاعتدال . فهو يرضى الاستقرار ، ويطاوع التطور . والاستقرار يتمثل فى وصل الحاضر بالماضى . والتطور يترآى فى تطلع الحاضر إلى المستقبل .
***
وإيذاناً بأن الحاضر متصل بالماضى ، عمدت فى هذا الكتاب إلى أمرين :
( أولهما ) أننى طفقت أشير إلى القضاء والفقه المصريين فى عهد القانون المدنى القديم كما لو كانا قد نبتا فى عهد القانون المدنى الجديد . وترانى أشير إليهما دون أن أشعر القارئ بأن القانون المدنى قد تغير ، ودون أن أنبه إلى أن القضاء والفقه اللذين أستند إليهما قد قاما فى عهد القانون المدنى القديم . وأوردت بذلك أن أدل على أن ما كان يصلح قضاء وفقهاً فى الماضى لا يزال صالحاً حتى اليوم . فالسلسلة لم تنقطع حلقاتها ، والعهد الحاضر لا يزال متصلا بالعهد الماضى أوثق الاتصال . وتعمدت أن أنقل عن كتابى فى نظرية العقد وعن كتابى الآخر فى النظرية العامة للالتزامات كثيراً مما اشتملا عليه من الآراء الفقهية ومن قضاء المحاكم المصرية ، فى العبارات ذاتها التى وردت فى الكتابين ، بعد توفير ما ينبغى من الملاءمة ليساير الكتاب الجديد أحكام القانون الجديد . كل ذلك حتى أصل الحاضر بالماضى ، وحتى أثبت من طريق عملى أن الكتاب الذى كان يصلح مرجعاً فى القانون القديم لا يزال صالحاً فى كثير من نواحيه مرجعاً فى القانون الجديد لم يؤذن بثورة ، ولم يحدث انقلاباً . وإذا كنت قد رجعت عن بعض الآراء الفقهية التى سبق لى أن اعتنقتها فى الكتابين اللذين أسلفت ذكرهما ، فتلك سنة العقل البشرى ، لا يقيم على خطة واحدة من النظر . فهو لا يستطيع أن يستوعب الحقائق مطلقة . ويدرك اليوم ما لم يكن بقادر على إدراكه بالأمس .
ولما كان القانون الجديد – فيما استحدث من النصوص والأحكام – لا يزال بكراً لم يرد فيه قضاء أو فقه ، فقد استعضت عنهما بما نقلت من الأعمال التحضيرية . فأرخت كل نص من نصوص القانون الجديد منذ كان النص فى المشروع التمهيدى ، متعقباً إياه وقد انتقل إلى المشروع النهائى ، ثم إلى مجلس النواب ، ثم إلى لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ ، ثم إلى مجلس الشيوخ ، حتى أصبح هو نص القانون الجديد . نقلت ما جاء فى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى فى صدد هذه النصوص . واعتمدت فى كل ذلك على مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدنى الجديد التى أصدرتها وزارة العدل فى أجزاء سبعة .
وكنت إذا ما استحدث القانون الجديد تغييراً ، أعنى كل العناية بالإشارة إلى هذا التغيير ، فأرسم حدوده ، وأبين مداه ، وأستطرد عند الحاجة إلى بحث سريان الحكم الجديد من حيث الزمان ، فأذكر ما عسى أن يكون للنص المستحدث من أثر رجعى ، وبخاصة ما يكون له من أثر فورى ، وفقاً للنظريات الحديثة .
( والأمر الثانى ) أننى جعلت الفقه والقضاء الفرنسيين هما ، من بين سائر النظم القانونية الأجنبية ، النظام الأجنبى الذى رجعت إليه ، كما كانت الحال فى عهد القانون المدنى القديم . على أن القضاء الفرنسى لم أشر إليه إلا حيث أتابع التطور التاريخي لبعض المبادئ القانونية ، وإلا حيث استكمل به القضاء المصرى . وقد تعمدت أن يكون قضاؤنا المصرى هو الأصل الذي يرجع إليه ، فيكون هو القضاء البارز فى جميع نواحى الكتاب ، لا يغنى عنه القضاء الفرنسى ، بل لا يقف إلى جانبه إلا حيث تقوم الحاجة . لم أفعل ذلك زراية بالقضاء الفرنسى أو غضاً من شأنه ، وإلا فهو القضاء الذى نزلنا ضيوفاً فى ساحته الواسعة ، وعشنا زمناً فى رحباته الفسيحة . ولكن آن للضيف أن يعود إلى بيته ، بعد أن أقامه على عمد قوية . والقضاء المصرى فى مدى خمسة وسبعين عاماً قطع شوطاً بعيداً فى طريق التقدم ، حتى أصبح من حقه أن يظفر باستقلاله . وقد صار من الكثرة والتنوع بحيث يجد الباحث فيه لكل مسألة مرجعاً . وبلغ فى الذاتية شأواً أبعد ما بلغ الفقه المصرى . فمن واجبه الآن أن يضطلع بمسئولياته كاملة.
***
هذا عن اتصال الحاضر بالماضى . أما عن تطلع الحاضر إلى المستقبل ، فآيته أن القانون المدنى الجديد يفتتح عهداً جديداً .
يتمثل ذلك فى هذه النهضة التشريعية المباركة التى بدأت منذ سنة 1936 ، وقد أرسى أساسها على ماهر باشا باللجان التى ألفها لوضع مشروعات للتقنينات الرئيسية ، فناظرت هذه الحركة المثمرة المباركة قرينتها التى نبتت ستين عاماً قبلها وانتهت إلى وضع التقنينات المصرية الحديثة التى قامت عليها حياتنا القانونية ولا تزال تقوم على بعض منها حتى اليوم . فما أشبه الليلة بالبارحة ! لقد دخلت مصر بالأمس ، وفى نهضتها التشريعية الأولى ، عالم القانون الحديث ، فخطت خطوة حاسمة فى مدارج تطورها القانونى. وهى اليوم ، فى نهضتها التشريعية الثانية ، تخطو خطوة حاسمة أخرى ، فتتبوأ مكاناً مستقلا فى الأسرة العالمية للقانون.
وإذا كانت مصر قد استقلت بتشريعها ، فقد آن لها أن تستقل أيضاً بقضائها وبفقهها. وأن هذا العهد الجديد ، الذى افتتحه القانون المدنى الجديد ، لتعلن فيه مصر أنها قد اعتزمت أن يكون لها قضاء ذاتى وفقه قومى.
هذه هى المرحلة الجديدة التى تخطوها مصر ، وهذه هى الآفاق الجديدة التى تطالع بها رجال القانون فى هذا العهد الجديد .
لقد ظفر التشريع المصرى بالاستقلال فى سنة 1937 ، وكانت معاهدة مونتريه هى صك استقلاله . وظفر القضاء المصرى بالتوحيد بعد انقضاء فترة الانتقال وزوال المحاكم المختلطة . فعلى القضاء المصرى تقع تبعات جسيمة ينبغى له أن ينهض بها . وعلى الفقه المصرى أن يكون الرائد للقضاء المصرى ، يمهد له السبيل ، ويعبر له الطريق.
وإذا كان القانون المدنى الجديد قد اقتبس نصوصاً من بعض المصادر الأجنبية ، فليست هذه ، فى الكثرة الغالبة منها ، غير مصادر استئناس للصياغة . أما الغالبية العظمى من أحكامه فمستمدة من أحكام القانون المدنى القديم ومن المبادئ التى أقرها القضاء المصرى طوال سبعين سنة كاملة .
وقد كتبت منذ ثمانية عشر عاماً فى كتاب (( نظرية العقد )) : (( علينا أولاً أن نمصر الفقه ، فنجعله فقهاً مصرياً خالصاً ، نرى فيه طابع قوميتنا ، ونحس أثر عقليتنا ، ففقهنا حتى اليوم لا يزال ، هو أيضا ، يحتله الأجنبى ، والاحتلال هنا فرنسى . وهو احتلال ليس بأخف وطأة ، ولا بأقل عنتاً ، من أى احتلال آخر . لا يزال الفقه المصرى يتلمس فى الفقه الفرنسى الهادى المرشد ، لا يكاد يتزحزح عن أفقه ، أو ينحرف عن مسراه ، فهو ظله اللاصق ، وتابعه الأمين . فإذا قدر لنا أن نستقل بفقهنا ، وأن نفرغه فى جو مصرى ، يشب فيه على قدم مصرية ، وينمو بمقومات ذاتية ، بقى علينا أن نخطو الخطوة الأخيرة ، فنخرج من الدائرة القومية إلى الدائرة العالمية ، ونؤدى قسطاً مما تفرضه علينا الإنسانية ضريبة فى سبيل تقدم الفقه العالمى ، أو ما اصطلح الفقهاء على تسميته بالقانون المقارن )).
واليوم يسعدنى أن أنقل هنا ما أدليت به أمام اللجنة التشريعية بمجلس النواب ، وهى تنظر مشروع القانون الجديد : (( أن النصوص التشريعية الواردة فى هذا المشروع لها من الكيان الذاتى ما يجعلها مستقلة كل الاستقلال عن المصادر التى أخذت منها . ولم يكن الغرض من الرجوع إلى التقنينات الحديثة أن يتصل المشروع بهذه التقنينات المختلفة اتصال تبعية فى التفسير والتطبيق والتطور ، فإن هذا ، حتى لو كان ممكناً ، لا يكون مرغوباً فيه ، فمن المقطوع به أن كل نص تشريعى ينبغى أن يعيش فى البيئة التى يطبق فيها ، ويحيا حياة قومية توثق صلته بما يحيط به من ملابسات ، وما يخضع له من مقتضيات ، فينفصل انفصالا تاماً عن المصدر التاريخى الذى أخذ منه ، أيا كان هذا المصدر . وقد حان الوقت الذى يكون لمصر فيه قضاء ذاتى وفقه مستقل . ولكل من القضاء والفقه ، بل على كل منهما ، عند تطبيق النص أو تفسيره ، أن يعتبر هذا النص قائماً بذاته ، منفصلا عن مصدره ، فيطبقه أو يفسره تبعاً لما تقتضيه المصلحة ، ولما يتسع له التفسير من حلول تفى بحاجات البلد ، وتساير مقتضيات العدالة . وبذلك تتطور هذه النصوص فى صميم الحياة القومية ، وتثبت ذاتيتها ، ويتأكد استقلالها ، ويتحقق ما قصد إليه واضعو المشروع من أن يكون لمصر قانون قومى ، يستند إلى قضاء وفقه لهما من الطابع الذاتى ما يجعل أثرهما ملحوظاً فى التطور العالمى للقانون )) .
تطور النصوص فى صميم الحياة القومية : هذه هى مهمة القضاء والفقه فى مصر منذ اليوم . ولا عذر لهما إذا هما تخليا عن هذه التبعة الخطيرة ، وتركا الاجتهاد إلى التقليد .
وإن القانون المصرى الجديد ليؤذن بعهد جديد لا فى مصر فحسب ، بل أيضاً فى البلدين الشقيقين العربيين ، سورية والعراق . ويكفى أن يكون هذا الشرح للقانون المصرى الجديد هو فى الوقت ذاته شرح للقانون السورى الجديد ، فما بين القانونين إلا فروق طفيفة أشرت إليها فى حواشى هذا الكتاب . وهو أيضاً مرجع أساسى لشرح القانون العراقى الجديد ، فقد قام هذا القانون على مزاج موفق من الفقه الإسلامى والقانون المصرى الجديد . وقد حان الوقت ليتعاون الفقهاء المصريون مع زملائهم فقهاء سورية وفقهاء العراق ، ويتكاتفوا جميعاً لإرساء أساس قوى (( للقانون المدنى العربى )) ، يكون قوامه الفقه الإسلامى ، قانون المستقبل لبلاد العروبة جميعاً .
وإذا كنا نشعر اليوم بنزعة محمودة إلى تثبيت ذاتيتنا وتأكيد استقلالنا ، بعد أن صلب عودنا وشببنا عن الطوق ، فإن الواجب يقتضينا أن نذكر ذكر المعترف بالفضل والجميل ما نحن مدينون به للفقه الأجنبى ، وبخاصة للفقه الفرنسى . فقد كان هذا الفقه التكئة التى عليها نرتكز ، والنور الذى به نهتدى ، ولا زلنا مغمورين بفيضه حتى اليوم .
***
هذا والكتاب الذى أقدمه إلى القراء هو من طلائع الشروح للقانون المدنى الجديد . فلابد أن يكون بعيداً عن حد الكمال . وما أعجلنى إلى إخراجه إلا علمى بأن الغاية بعيدة ، وأن العمر قصير ، وأن الكمال لله وحده .
وقد تفضل صديقى الأستاذ الفاضل مصطفى كامل إسماعيل فكفل تصحيح (( التجارب )) ، فعاون بذلك على إخراج الكتاب معاونة مشكورة ، تخففت بها من مشقة بالغة . جزاه الله عنى خير الجزاء .
وإذا كان هذا الكتاب ليس إلا خطوة متواضعة نحو استقلال الفقه المصرى ، وقد بدت بشائر هذا الاستقلال قبل ذلك فى كتب ورسائل قيمة لزملاء هم فى الذروة من فقه القانون المدنى ، فإنى أرجو أن يكون الكتاب ، فى هذاالحيز المحدود ، قد أوفى بقليل من الغرض ، وملأ شيئاً من الفراغ ، وسد بعضاً من الحاجة .
والله المستعان .
ماذا يجول بخاطرك ؟ لاتتردد !! عبّر عن نفسك .بعض الكلمات ستتدفق وبعضها سيتعثر لكنها تسعدنا مهما كانت.