01 مايو 2023

العيوب الموضوعية للقانون المدني القديم

 العيوب الموضوعية : 

يكتنف الظروف التى وضع فيها التقنين المدنى القديم شيء من الغموض ، إذا لم يختلف عنه أعمال تحضيرية تبين لنا كيف وضع ، والظروف التى وضع فيها ، والسياسة التشريعية التى توخيت فى وضعه .

والمعروف أن واضع التقنين المدنى المختلط هو الأستاذ مانوري Manoury . كان محامياً فرنسياً يقيم فى الإسكندرية . واتخذه نوبار باشا أمين سر له . ثم عينه بعد ذلك أمين سر للجنة الدولية التى كانت تدرس مشروع إنشاء المحاكم المختلطة فى مصر ، وعهد إليه فى وضع التقنينات المختلطة فى سنة 1872 ، فانتهى من وضعها فى العام التالى ( سنة 1873 ) .

وقد اقتبس مانورى التقنين المدنى المختلط من التقنين المدنى الفرنسى ، فاختصر هذا التقنين اختصاراً مخلا فى كثير من المواطن . ونقل بعض المسائل عن القضاء الفرنسى وعن التقنين المدنى الإيطالى القديم الذى صدر فى سنة 1866 . ولم يغفل الشريعة الإسلامية فنقل عنها بعض الأحكام . وصدر التقنين المدنى المختلط فى 28 من يونيه سنة 1875 . ثم شكلت لجنة من بعض كبار المترجمين – كان فيهم محمد قدرى ( باشا ) وحسين فخرى ( باشا ) وبطرس غالى ( باشا ) – وقامت اللجنة بترجمة هذا التقنين وسائر التقنينات المختلطة إلى اللغة العربية .

وما لبثت حكومة ذلك العهد ، بعد إذ استقرت المحاكم المختلطة ، أن تطلعت إلى إصلاح القضاء الوطنى وتنظيمه على غرار القضاء المختلط . وكان ناظر الحقانية إذ ذاك محمد قدرى باشا . فتألفت فى أواخر سنة 1880 لجنة لوضع لائحة لمحاكم وطنية نظامية ، كان من بين أعضائها الأستاذ موريوندو Moriondo وهو محام إيطالى عين قاضياً فى محكمة الإسكندرية المختلطة فى سنة 1875 ، وبقى فى القضاء المختلط حتى وصل إلى منصب وكيل محكمة الاستئناف المختلطة ، وتوفى سنة 1911 . وقامت هذه اللجنة بوضع لائحة لترتيب المحاكم الوطنية الجديدة صدرت فى 17 من نوفمبر سنة 1881 . وقام أعضاء اللجنة فى الوقت ذاته بوضع تقنينات لهذه المحاكم ، صيغت كلها على مثال التقنينات المختلطة . وكان من نصيب الأستاذ موريوندو أن يضع التقنين المدنى الوطنى ، فنقله نقلا يكاد يكون حرفياً من التقنين المدنى المختلط . واشترك محمد قدرى باشا مع الأستاذ موريوندو فى وضع هذا التقنين .

ثم شبت الثورة العرابية ، فوقفت حركة الإصلاح القضائى . ولما أخمدت الثورة أعادت الحكومة النظر فى لائحة سنة 1881 ، وأصدرتها معدلة فى 14 من يونيه سنة 1883 . ثم أصدرت التقنين المدنى الوطنى فى 28 من أكتوبر سنة 1883 ، فالتقنينات الخمسة الأخرى فى 13 من نوفمبر سنة 1883 . وقد وضعت هذه التقنينات الوطنية كلها باللغة الفرنسية ، ثم ترجمت إلى اللغة العربية . وقام بالترجمة يوسف وهبه ( باشا ) مسترشداً بترجمة التقنينات المختلطة التى سبقت الإشارة إليها . وراجعت الترجمة لجنة شكلت لهذا الغرض ( ) .

وقد سجلت قوانين (( الإصلاح )) المختلطة والوطنية فى تاريخ التقنين المصرى مرحلة تقدم واسعة فى العهد الذى صدرت فيه ، وقضت على كثير من مساوئ الماضى . ولكن البلاد بقيت تسير إلى الأمام ، فتطورت المدينة ، واستدار الزمن ، وتقدم فن التقنين ، وأصبحت مصر لا تقنع اليوم بما كانت تقنع به بالأمس ، وأخذت عيوب هذه التقنينات تظهر شيئا فشيئا . وبحسبى أن أشير هنا إشارة موجزة إلى عيوب التقنين المدنى القديم . 

وأول ما يعيب هذا التقنين أنه محض تقليد للتقنين الفرنسى العتيق . فجمع بين عيوب التقليد وعيوب الأصل الذى قلده . والتقنين الفرنسى قد قدم به العهد ، وهو  اليوم متخلف عن العصر الذى يعيش فيه قرناً ونصف قرن . وفى خلال هذه الأجيال الطويلة ارتقى التقنين المقارن إلى مدى جعل التقنين الفرنسى فى الصف الأخير من التقنينات الحديثة . فهناك مسائل ذات خطر كبير نبتت فى العهود الأخيرة ، ونمت وازدهرت فاحتوتها تقنينات القرن العشرين ، ولا نجد لها أثراً فى التقنين الفرنسى ، وقد ولد فى فجر القرن التاسع عشر ، ولا فى تقنيننا المدنى الذى أخذ عنه . فمبدأ التعسف فى استعمال الحق ، ونظرية الاستغلال ، ونظام المؤسسات ، وتنظيم الملكية فى الشيوع ، وعقود التزام المرافق العامة ،وعقد التأمين ، وحوالة الدين ، والإعسار المدنى ، كل هذه المسائل الخطيرة لا نعثر على نص واحد فيها لا فى التقنين الأصيل ولا فى التقنين المقلد . وحتى فيما احتواه هذان التقنينان من النظريات والأحكام ، نرى الكثير منها ناقصاً مبتورا . ويكفى أن نشير إلى أهم نظرية فى القانون المدنى وهى نظرية الالتزام ، وإلى أهم باب فيها وهو باب المصادر ، حتى يظهر بجلاء أن أحكام العقد والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب وردت فى التقنينين غامضة مقتضبة . فلا نجد فى أحكام العقد شيئاً عن النيابة فى التعاقد ، ولا عن الإرادة المنفردة ، ولا عن عقود الإذعان ، ولا عن الدفع بعدم تنفيذ العقد ، ولا عن الحق فى الحبس ، بل نحن لا نجد فى مسألة من أدق مسائل العقد ، وهى مسألة تكوينه ، إلا صمتا محيرا . فلا نص يبين كيف يصدر الإيجاب ، ومتى يكون ملزماً ، وإلى أى وقت ، وكيف يقترن به القبول ، ومتى وأين يتم التعاقد فيما بين الغائبين . ولا نجد فى المسئولية التقصيرية إلا عدداً قليلا من النصوص تسكت عن أهم المسائل فى هذه المسئولية . أما فى الإثراء بلا سبب فلا يوجد نص واحد يضع القاعدة العامة فى هذا الموضوع الخطير ( ) .

ولم يقتصر التقنين المصرى على نقل عيوب التقنين الفرنسى ، بل زاد عليها عيوباً من عنده . وهو إذا كان قد تجنب عيوب هذا التقنين فى بعض المسائل ، كما فعل فى ترتيبه لمصادر الالتزام وفى عيوب الرضاء والهبة المستترة والتضامن فى المسئولية التقصيرية والمصروفات الفاحشة فى بيع الوفاء وامتياز المقاول من الباطن ، إلا أن ما زاده من العيوب أربى بكثير على ما تجنبه منها .

ففى تقنيننا المدنى القديم فضول واقتضاب . وفيه غموض وتناقض . ثم هو يقع فى كثير من الأخطاء الفاحشة .

أما أن التقنين القديم فه فضول واقتضاب فيكفى أن نتصفحه لنتبين ذلك فى وضوح . فهو فى حق الملكية ، أهم الحقوق العينية ، يقتصر على نصين اثنين ، يتحدث فى الثانى منهما عن حق المؤلف ويحيل فيه إلى قانون خاص . وهو مع ذلك يتناول حق الانتفاع ، أقل الحقوق العينية خطراً وأضيقها انتشاراً فى مصر ، فإذا به يفيض فى نصوصه إفاضة لا يفسرها إلا أنه يقلد التقنين الفرنسى تقليداً أعمى ، حيث حق الانتفاع فى فرنسا من الحقوق العينية الواسعة الانتشار بسبب قانون الميراث . ثم هو فى نظرية الالتزام يفيض فى المسائل التى لا حاجة للإفاضة فيها كما فعل فى الالتزامات التخييرية والالتزامات التى يكون القانون مصدرها ، ويقتضب فى المسائل التى هي فى أشد الحاجة إلى البيان والتفصيل كما فعل فى تكوين العقد وفى الاشتراط لمصلحة الغير وفى الدعوى البوليصية وفى المسئولية التقصيرية وفى الإثراء بلا سبب .

وفى التقنين القديم غموض وتناقض . يتفشى الغموض فى كثير من نصوصه الجوهرية . ويكفى الرجوع إلى النصوص المتعلقة بالدعوى غير المباشرة والدعوى البوليصية والالتزام الطبيعى والشرط الجزائى والمحل والسبب والاشتراط لمصلحة الغير والتضامن وعمل الفضولى والحيازة ، لنتبين أن هذه النصوص قلقة غامضة لا تخلص إلى معنى مستقر ثابت . أما التناقض ما بين أحكام التقنين القديم فهو أمر غير نادر الوقوع . إذ بينما يحمل المشترى تبعة الهلاك فى بيع المثليات قبل التسليم ، نرى البائع هو الذى يحمل هذه التبعة بوجه عام . وقد ساير التقنين القديم التقنين الفرنسى فى الأولى ،ونقل عن الشريعة الإسلامية فى الثانية . وبينما لا يجوز للمدين المتضامن أن يتمسك بالمقاصة التى وقعت لغيره من المدينين المتضامنين ، إذا به يجوز له أن يتمسك بها بقدر حصته فى الدين . وفى الوقت الذى يجيز فيه التقنين القديم الاشتراط لمصلحة الغير دون قيد ، إذا به يقرر فى عبارة عامة وفى غير احتراز أن العقود لا تترتب عليها منفعة لغير عاقديها . وينزل بالحد الأقصى للفوائد الاتفاقية إلى 9 فى المائة ، ولكنه يرتفع به فى عقد القرض إلى 12 فى المائة . ولم يسلم التقنين المدنى الوطنى من أن يتناقض فى بعض أحكامه مع التقنين المدنى المختلط . فالتقنين الوطنى يشترط فى حوالة الحق رضاء المدين ، ويكتفى التقنين المختلط بإعلانه . ويبيح التقنين الوطنى بيع المحصولات قبل أن تنبت ، ويحرم التقنين المختلط هذا البيع . ويجعل التقنين الوطنى أقصى مدة الاسترداد فى بيع الوفاء خمس سنين ، وينقص التقنين المختلط هذه المدة إلى سنتين .

وهناك سلسلة من الأخطاء وقع فيها التقنين القديم . منها أنه أغفل أهم شرط فى التملك بالتقادم القصير ، وهو شرط حسن النية . ونقل أحكام بيع المريض مرض الموت عن الشريعة الإسلامية فوقع فى غلطتين : نظر إلى مال البائع وقت البيع والصحيح أن ينظر إليه وقت الموت ، وقضى بأن العبرة بقيمة المبيع والصحيح أن العبرة بالقدر المحابى به . وقرر أحكاماً غريبة فى النفقات نقلها عن القانون الفرنسى وهى تتنافر مع أحكام الشريعة الإسلامية ، فجعل الزوجة تنفق على زوجها ، بل تنفق على زوجة أبى زوجها . وذكر أن ملكية المبيع المعين بالنوع تنتقل بالتسليم ، والصحيح أنها تنتقل بالتعيين . وجعل الشرط الجزائى التزاماً تخييرياً ، والصحيح أنه يخرج من نطاق الالتزامات التخييرية . ورتب على الوفاء مع الحلول أن الدين ينقضى ويحل محله دين جديد ، والصحيح أن للدين يبقى مع انتقاله إلى دائن جديد . وزعم التقنين المدنى المختلط أن القسمة منشئة للحق ، والصحيح أن القسمة كاشفة لا منشئة .


مقالات ذات صلة

العيوب الموضوعية للقانون المدني القديم
4/ 5
بواسطة

إشترك بالنشرة البريدية

لا تتردد في الإشتراك عن طريق البريد الإلكتروني،للحصول على أخر اخبارنا

ماذا يجول بخاطرك ؟ لاتتردد !! عبّر عن نفسك .بعض الكلمات ستتدفق وبعضها سيتعثر لكنها تسعدنا مهما كانت.